للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ (١١: ٩١) وَإِنْ تَرَاءَى لِغَيْرِ الْفَقِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ مَا يَقُولُ فَهْمًا سَطْحِيًّا سَاذَجًا; لِأَنَّهُ يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَتِهِمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ مَا فِي أَعْمَاقِ بَعْضِ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ مِنَ الْغَايَاتِ الْبَعِيدَةِ لِعَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ إِيَّاهُ، وَعَدَمِ احْتِرَامِهِمْ لَهُ، وَلِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِتَقَالِيدِهِمْ وَأَهْوَائِهِمُ الصَّادَّةِ لَهُمْ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهِ وَالِاعْتِبَارِ بِهِ، وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الْعِشْرُونَ فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٠: ٢٧، ٢٨) وَهُوَ لَا يُنَافِي مَا ذُكِرَ ; لِأَنَّ فَصَاحَةَ لِسَانِ الدَّاعِيَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْوَاعِظِ الْمُنْذِرِ تُعِينُ عَلَى تَدَبُّرِ مَا يَقُولُ وَفِقْهِهِ.

إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَعْنَاهُ: نُقْسِمُ أَنَّنَا قَدْ خَلَقْنَا وَبَثَثْنَا فِي الْعَالَمِ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لِأَجْلِ سُكْنَى جَهَنَّمِ وَالْمُقَامِ فِيهَا، أَيْ: كَمَا ذَرَأْنَا لِلْجَنَّةِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ مُقْتَضَى اسْتِعْدَادِ الْفَرِيقَيْنِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١١: ١٠٥) فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٤٢: ٧) وَبِمَاذَا كَانَ هَؤُلَاءِ مُعِدِّينَ لِجَهَنَّمَ دُونَ الْجَنَّةِ، وَمَا صِفَاتُهُمُ الْمُؤَهِّلَةُ لِذَلِكَ؟ .

(الْجَوَابُ) : ذَلِكَ بِأَنَّ لَهُمْ قُلُوبًا لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا إِلَخْ. أَيْ لَا يَفْقَهُونَ بِقُلُوبِهِمْ مَا تَصْلُحُ وَتَتَزَكَّى بِهِ أَنْفُسُهُمْ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ الْمُطَهِّرِ لَهَا مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنَ الْمَهَانَةِ وَالصَّغَارِ ; فَإِنَّ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَحْدَهُ عَنْ إِيمَانٍ وَمَعْرِفَةٍ تَعْلُو نَفْسُهُ، وَتَسْمُو بِمَعْرِفَةِ رَبِّهِ رَبِّ

الْعَالَمِينَ، وَمُدَبِّرِ الْكَوْنِ بِتَقْدِيرِهِ وَسُنَنِهِ، فَلَا تَذِلُّ نَفْسُهُ بِدُعَاءِ غَيْرِهِ، وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالرَّجَاءِ فِيهِ، وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ، بَلْ يَطْلُبُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَحْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا أَقْدَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ خَلْقَهُ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَسْبَابِهِ وَتَمْكِينِهِمْ مِنْهَا طَلَبَهُ بِسَبَبِهِ، مُرَاعِيًا فِي طَلَبِهِ مَا عَلِمَهُ مِنْ مَقَادِيرِ الْخَلْقِ وَسُنَنِهِ، وَذَلِكَ عَيْنُ الطَّلَبِ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَلَا سِيَّمَا فِي نَظَرِ الْعَالِمِ بِمَا ذُكِرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ لِهِدَايَتِهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ سَبَبِهِ، وَإِقْدَارِهِ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ وَسَائِلِهِ، أَوْ تَسْخِيرِ مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ لِمُسَاعَدَتِهِ عَلَيْهِ، أَوْ إِيصَالِهِ إِلَيْهِ، مِمَّنْ أَعْطَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِهِ مَا لَمْ يُعْطِهِ، كَالْأَطِبَّاءِ لِمُدَاوَاةِ الْأَمْرَاضِ، وَأَقْوِيَاءِ الْأَبْدَانِ لِرَفْعِ الْأَثْقَالِ، وَالْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ لِبَيَانِ الْحَقِيقَةِ وَحَلِّ الْإِشْكَالِ. وَلَا يَتَوَجَّهُ مِثْلُ هَذَا الْعَارِفِ الْمُوَحِّدِ فِي طَلَبِ شَيْءٍ إِلَى غَيْرِ مَا يَعْرِفُ الْبَشَرُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُطَّرِدَةِ، وَالْوَسَائِلِ الْمَعْقُولَةِ الْمُجَرَّدَةِ، كَالرُّقَى وَالنَّشَرَاتِ، وَالتَّنَاجُسِ وَالطَّلْسَمَاتِ، وَالْعَزَائِمِ وَالتَّبْخِيرَاتِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>