كَذَلِكَ يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الرُّومِ: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (٣٠: ٧) فَانْظُرْ إِلَى بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ فِي إِعَادَةِ ضَمِيرِ (هُمْ) وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ الَّذِي اقْتَضَاهُ وَصْفُهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي مِنْ شَأْنِ صَاحِبِهِ عَدَمُ الْغَفْلَةِ.
تِلْكَ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ مَنْ خُلِقُوا لِسُكْنَى الْجَحِيمِ، وَمَا يُقَابِلُهَا فَهُوَ صِفَاتُ أَهْلِ دَارِ النَّعِيمِ، فَأَهْلُ النَّارِ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى هُمُ الْأَغْنِيَاءُ الْجَاهِلُونَ الْغَافِلُونَ الَّذِينَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ عُقُولَهُمْ فِي فِقْهِ حَقَائِقِ الْأُمُورِ، وَلَا يَسْتَعْمِلُونَ أَسْمَاعَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ الْمَعَارِفِ، وَاسْتِفَادَةِ الْعُلُومِ، وَمَعْرِفَةِ آيَاتِ اللهِ الْكَوْنِيَّةِ، وَفِقْهِ آيَاتِهِ التَّنْزِيلِيَّةِ، وَهُمَا سَبَبُ كَمَالِ الْإِيمَانِ وَالْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ عَلَى كَمَالِ الْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، وَلَنْ تَرَى فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ الْكَثِيرَةِ مَنْ نَبَّهَ قُرَّاءَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الْهَادِيَةِ إِلَى سَبِيلِهِ وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ، عَلَى أَنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ قَدِ اتَّخَذُوا كِتَابَ اللهِ مَهْجُورًا، فَإِذَا سَأَلْتَ أَشْهَرَهُمْ بِعِلْمِ التَّفْسِيرِ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ لَكَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ لِلنَّارِ خَلْقًا هُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي مَجْبُورُونَ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ يَفْهَمُوا بِهَا شَيْئًا مِمَّا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفْهَمَ، فَيَدْخُلُ فِيهِ مَا يَلِيقُ بِالْمَقَامِ مِنَ الْحَقِّ وَدَلَائِلِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا -، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمُبْصَرَاتِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ الشَّوَاهِدُ التَّكْوِينِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْحَقِّ انْدِرَاجًا أَوَّلِيًّا - وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا شَيْئًا مِنَ الْمَسْمُوعَاتِ، فَيَتَنَاوَلُ الْآيَاتِ التَّنْزِيلِيَّةَ عَلَى طُرُزِ مَا سَلَفَ " انْتَهَى مُلَخَّصًا مِنْ رُوحِ الْمَعَانِي، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ فِيهِ فَكَلَامٌ فِي الْإِعْرَابِ وَنُكَتِ التَّعْبِيرِ، وَتَحْقِيقٌ لِمَعْنَى الْجَبْرِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهُوَ زُبْدَةُ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَأَهْلُ النَّارِ عِنْدَهُمْ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ كَافِرِينَ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْ يُسَمُّونَهُمْ مُسْلِمِينَ، إِنْ كَانُوا يَجْهَلُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَيُصِرُّونَ عَلَى الْفُجُورِ، اتِّكَالًا عَلَى شَفَاعَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مَعَ اللهِ أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ لِمُهِمَّاتِ الْأُمُورِ، وَيَذْبَحُونَ لَهُمُ النَّسَائِكَ، وَيَنْذِرُونَ لَهُمُ النُّذُورَ،
وَهِيَ عِبَادَاتٌ لِغَيْرِ اللهِ يَخْرُجُونَ بِهَا مِنْ حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ، وَالِاحْتِجَاجُ بِالْآيَةِ عَلَى الْجَبْرِ غَفْلَةٌ وَجَهْلٌ بَلْ هِيَ كَسَائِرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَوْطِ الْجَزَاءِ بِالْعَمَلِ وَمَعْنَاهَا: أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدْ تَرَكُوا اسْتِعْمَالَ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمُ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فِي عِلْمِ الْهُدَى، الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ الْمُزَكِّيَةُ لِلنَّفْسِ، فَكَانُوا بِذَلِكَ أَهْلَ جَهَنَّمَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ تَعَالَى ذَرَأَهُمْ لِجَهَنَّمَ لِذَوَاتِهِمْ ; فَإِنَّ ذَوَاتِ الْجِنْسَيْنِ كُلُّهَا مُتَشَابِهَةٌ، وَلَمْ يَقُلْ إِنَّهُ خَلَقَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ اسْتِعْمَالِ تِلْكَ الْقُوَى فِي أَسْبَابِ الْهُدَى بَلْ قَالَ: إِنَّهُمْ هُمْ لَمْ يَسْتَعْمِلُوهَا فِي ذَلِكَ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦٧: ١٠، ١١) وَلَكِنَّ الْجَدَلَ فِي الْمَذَاهِبِ هُوَ الَّذِي أَوْهَمَهُمْ، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ هَدَانَا إِلَى تَفْسِيرِ الْآيَةِ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَسُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِنْسَانِ وَالْأَكْوَانِ، وَهُوَ مَا لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا مَا يَحُومُ حَوْلَهُ الْإِنْسَانُ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللهِ، مِمَّا أَمَرَ بِهِ اللهُ فَالْحَمْدُ لَهُ ثُمَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute