للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَيُقَصِّرُ فِي حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَهَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ، فَيَجْنِي عَلَى شَخْصِهِ وَعَلَى نَوْعِهِ بِالتَّفْرِيطِ كَمَا يَجْنِي عَلَيْهِمَا عَبِيدُ اللَّذَّاتِ بِالْإِفْرَاطِ، دَعِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَخْلَاقِ

وَالْآدَابِ وَعَلَى الْأُمَمِ وَالشُّعُوبِ، وَهِدَايَةُ الْإِسْلَامِ تَحْظُرُ هَذَا وَذَاكَ، وَتُوجِبُ الْأَكْلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَالزَّوَاجَ بِشَرْطِهِ، وَتُحَرِّمُ الْإِسْرَافَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَوِ اهْتَدَى النَّاسُ بِالْقُرْآنِ فِي فِقْهِ أَسْرَارِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِ لَجَمَعُوا بِهَا بَيْنَ ارْتِقَائِهِمْ فِي مَعَاشِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ، وَاتَّقَوْا هَذَا الْإِسْرَافَ فِي الشَّهَوَاتِ وَالتَّنَازُعَ عَلَيْهَا الَّذِي أَفْسَدَ مَدَنِيَّةَ الْإِفْرِنْجِ بِمَا يَشْكُو مِنْهُ جَمِيعُ حُكَمَائِهِمْ، وَيَجْزِمُونَ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِمْ.

أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ أَيْ أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِكُلِّ مَا ذَكَرَهُمُ الْغَافِلُونَ التَّامُّو الْغَفْلَةِ عَمَّا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ فِي الْحَيَاتَيْنِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا، أَوْ خَيْرِهِمَا وَأَكْمَلِهِمَا وَأَدْوَمِهِمَا وَهِيَ الثَّانِيَةُ، فَهُمْ طَبَقَاتٌ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي الْغَفْلَةِ، الْغَافِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمُ، الْغَافِلُونَ عَنِ اسْتِعْمَالِ عُقُولِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ فِي أَفْضَلِ مَا خُلِقَتْ لِأَجْلِهِ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، الْغَافِلُونَ عَنْ آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ الَّتِي تَهْدِي إِلَى مَعْرِفَةِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ وَرَبَّهُ، الْغَافِلُونَ عَنْ ضَرُورِيَّاتِ حَيَاتِهِمُ الشَّخْصِيَّةِ. وَحَيَاتِهِمُ الْقَوْمِيَّةِ، وَحَيَاتِهِمُ الْمِلِّيَّةِ، الَّذِينَ يُعَدُّونَ كَالْأَنْعَامِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ مُجَافَاةِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَهُوَ حَقَارَتُهُمْ وَمَهَانَتُهُمُ الشَّخْصِيَّةُ وَالْقَوْمِيَّةُ بَيْنَ الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ وَتَسْخِيرُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ كَمَا يُسَخَّرُ الْأَنْعَامُ فِي سَبِيلِ مَعِيشَتِهِ.

فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ مِنَ الْغَافِلِينَ: هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ يُونُسَ، بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَدْبِيرِهِ أَمْرَ الْعَالَمِ وَكَوْنِهِ يُبْدِئُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ - وَالْإِعَادَةُ فِي الْعَادَةِ أَهْوَنُ مِنَ الْبَدْءِ - وَالتَّذْكِيرِ بِآيَاتِهِ فِي جَعْلِ الشَّمْسِ ضِيَاءً وَالْقَمَرِ نُورًا وَتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ ; لِيُعْلَمَ مِنْهَا عَدَدُ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ، وَآيَاتِهِ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ - إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٠: ٧، ٨) فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ النَّارَ مَأْوَى الْغَافِلِينَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيْ عَنْ دَلَالَتِهَا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا وَمُدَبِّرِ النِّظَامِ فِيهَا، وَكَوْنِ إِعَادَةِ خَلْقِ الْبَشَرِ وَغَيْرِهِمْ فِي طَوْرٍ آخَرَ لَا يَتَعَاصَى عَلَى قُدْرَتِهِ، وَهُوَ مِنْ مُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَعَنْ كَوْنِ مَعْرِفَتِهِ تَعَالَى أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ، وَكَوْنِ التَّنَعُّمِ الرُّوحَانِيِّ بِلِقَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ أَسْمَى أَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْغَافِلُونَ عَمَّا ذُكِرَ - مِنْ أَكْبَرِ

الْعُلَمَاءِ بِسُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكَمِهِ فِي خَلْقِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالْعَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَلْ حُجَّةُ اللهِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ أَبْلَغُ وَأَظْهَرُ ; لِأَنَّهُمْ لَوْ فَطِنُوا لِدَلَالَتِهَا عَلَى مَا ذُكِرَ، وَفَقِهُوهُ كَمَا يَجِبُ لَكَانُوا أَسْعَدَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَبْعَدَ عَنْ شُرُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا مِمَّا هُمْ عَلَيْهِ الْآنَ، وَلَاسْتَعَدُّوا بِذَلِكَ لِسَعَادَةِ الْآخِرَةِ أَكْمَلَ اسْتِعْدَادٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>