للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَيْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سَمَاعَ تَفَقُّهٍ وَاعْتِبَارٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا خَيْرَ فِيهِمْ لَتَوَلَّوْا عَنْ الِاسْتِجَابَةِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ.

كَرَّرَ الرَّبُّ الْحَكِيمُ بَيَانَ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ بِأَسَالِيبَ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْبَلَاغَةِ، كَالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَالِاحْتِجَاجِ، وَبَيَانِ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ; لِأَجْلِ التَّأْثِيرِ وَالتَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ، لِمَنْ لَمْ يَفْقِدِ اسْتِعْدَادَ الْهِدَايَةِ مِنَ الْكَافِرِينَ ; وَلِأَجْلِ الْعِظَةِ وَالذِّكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا نَرَى فِي آيَاتِ الْأَنْفَالِ، وَمَعَ هَذَا التَّكْرَارِ الْبَالِغِ حَدَّ الْإِعْجَازِ فِي الْبَلَاغَةِ، نَرَى أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ أَشَدَّ إِهْمَالًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِاسْتِعْمَالِ أَسْمَاعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَفْئِدَتِهِمْ فِي النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَجْهَلِ الشُّعُوبِ بِالْعُلُومِ الَّتِي تُعْرَفُ بِهَا آيَاتُهُ تَعَالَى فِي أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ وَمَشَاعِرِهِ وَقُوَاهُ الْعَقْلِيَّةِ وَانْفِعَالَاتِهِ النَّفْسِيَّةِ،

وَآيَاتِهِ فِي الْجَمَادِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَاءِ وَالْبُخَارِ، وَالْغَازَاتِ الَّتِي تَتَرَكَّبُ مِنْهَا هَذِهِ الْمَوَادُّ وَغَيْرُهَا، وَسُنَنِ النُّورِ وَالْكَهْرُبَاءِ وَالْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْعُلُومِ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنِ الْإِفْرِنْجِ أَوْ تَلَامِيذِهِمُ الْمُتَفَرْنِجِينَ فَكَانَ مُقَلِّدًا فِيهِ لَهُمْ لَا مُسْتَقِلًّا، وَلَمْ يَتَجَاوَزْ طَرِيقَهُمْ فِي الْبَحْثِ عَنْ مَنَافِعِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ كَوْنِهَا آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى أَنَّ لَهَا رَبًّا خَالِقًا مُدَبِّرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مُرِيدًا قَدِيرًا رَحِيمًا، يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنْ يُخْشَى وَيُحَبَّ فَوْقَ كُلِّ أَحَدٍ، وَأَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ وَالزُّلْفَى عِنْدَهُ، وَرَجَاءُ لِقَائِهِ فِي الْآخِرَةِ مُنْتَهَى كُلِّ غَايَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ، وَلَوْ قَصَدَ أُولَئِكَ الْعُلَمَاءُ هَذَا مِنَ الْعِلْمِ لَأَصَابُوهُ ; فَإِنَّ الْأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا وَ " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " وَلَكِنَّهُمْ غَفَلُوا عَنْهُ; لِتَعَلُّقِ إِرَادَتِهِمْ بِمَا دُونَهُ ; وَلِهَذَا كَانَ عِلْمُهُمْ عَلَى سِعَتِهِ نَاقِصًا أَقْبَحَ نَقْصٍ، وَكَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَشُوبًا بِضَرَرٍ عَظِيمٍ بِاسْتِعْمَالِ مَا هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ خَوَاصِّ الْأَشْيَاءِ فِي الْحَرْبِ وَآلَاتِ الْقِتَالِ. الَّتِي تُدَمِّرُ الْعُمْرَانَ وَتَسْحَقُ الْأُلُوفَ الْكَثِيرَةَ مِنَ الْبَشَرِ فِي وَقْتٍ قَصِيرٍ - وَبِهَذَا يَصْدُقُ عَلَى هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الَّذِي اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ حَقَائِقِ الْعُلُومِ وَنَفْعِهَا الْمَادِّيِّ الْعَاجِلِ، مَا يَصْدُقُ عَلَى الَّذِينَ أَهْمَلُوا اسْتِعْمَالَهَا، وَآثَرُوا الْجَهْلَ عَلَى الْعِلْمِ بِهَا، مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:

أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أَيْ: أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ كَالْأَنْعَامِ مِنْ إِبِلٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ، فِي كَوْنِهِمْ لَا حَظَّ لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَشَاعِرِهِمْ إِلَّا اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَعِيشَتِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا مِنَ الْأَنْعَامِ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَا تَجْنِي عَلَى أَنْفُسِهَا بِتَجَاوُزِ سُنَنِ الْفِطْرَةِ، وَحُدُودِ الْحَاجَةِ الطَّبِيعِيَّةِ فِي أَكْلِهَا وَشُرْبِهَا وَنَزَوَاتِهَا بَلْ تَقِفُ فِيهِ عِنْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي تَحْفَظُ بِهَا الْحَيَاةَ الشَّخْصِيَّةَ وَالنَّوْعِيَّةَ، وَأَمَّا عَبِيدُ الشَّهَوَاتِ مِنَ النَّاسِ فَهُمْ يُسْرِفُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ إِسْرَافًا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ أَمْرَاضٌ كَثِيرَةٌ يَقِلُّ فِيهِمْ مَنْ يَسْلَمُ مِنْهَا كُلِّهَا، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَاهِدُ هَذِهِ الشَّهَوَاتِ جِهَادًا يُفَرِّطُ فِيهِ بِحُقُوقِ الْبَدَنِ فَلَا يُعْطِيهِ الْغِذَاءَ الْكَافِي

<<  <  ج: ص:  >  >>