وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا وَمَعْنَى الْجُمْلَتَيْنِ يُفْهَمُ إِجْمَالًا مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ فِقْهَ الْقُلُوبِ تَفْصِيلًا، أَيْ: وَلَهُمْ أَبْصَارٌ وَأَسْمَاعٌ لَا يُوَجِّهُونَهَا إِلَى التَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا يَرَوْنَ مِنْ آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَفِيمَا يَسْمَعُونَ مِنْ آيَاتِ اللهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ، وَمِنْ أَخْبَارِ التَّارِيخِ الدَّالَّةِ عَلَى سُنَنِهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ، فَيَهْتَدُوا بِكُلٍّ مِنْهَا إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فَيُؤْخَذُ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ الْكَثِيرَةِ الْمُرْشِدَةِ إِلَى النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ تَعَالَى فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ، وَفِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَكَذَا الِاسْتِفَادَةِ مِمَّا يُرْوَى وَيُؤْثَرُ مِنْ تَارِيخِ الْبَشَرِ ; فَإِنَّ الْآذَانَ قَدْ خُلِقَتْ لِلْإِنْسَانِ; لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يَسْمَعُ، لَا مِنَ الْقُرْآنِ فَقَطْ، كَمَا أَنَّ الْأَبْصَارَ خُلِقَتْ لَهُ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ كُلِّ مَا يُبْصَرُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِهِ بِتَوْجِيهِ إِرَادَتِهِ إِلَى اسْتِعْمَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِيمَا خُلِقَ لَهُ. قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (٣٢: ٢٦، ٢٧) فَهَذَانِ مَثَلَانِ لِلْآيَاتِ الْبَصَرِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ، وَأَمْثَالُهَا كَثِيرٌ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الَّذِينَ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْقُرْآنِ لَا يَفْقَهُونَ شَيْئًا مِنْهَا، وَلَيْسَ الْفِقْهُ عِنْدَهُمْ إِلَّا تَقْلِيدَ عُلَمَاءِ فُرُوعِ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ فِيمَا كَتَبُوهُ مِنْهَا، وَقَدْ يَكُونُ فِي حِكَايَتِهَا دُونَ الْعَمَلِ بِهَا! ! .
وَفِي مَعْنَى مَا هُنَا مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ جَهَنَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ عَلِمَ اللهُ رُسُوخَهُمْ فِي الْكُفْرِ، وَثَبَاتَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (٢: ٧) فَقَدْ بَيَّنَ بِضَرْبٍ مِنَ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ عَدَمَ انْتِفَاعِهِمْ بِمَوَاهِبِ الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ آلَاتُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، وَطُرُقُ الْهُدَى وَالْإِيمَانِ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ بِتَشْبِيهٍ أَبْلَغَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٢: ١٨) وَمِثْلُهُ الْمَثَلُ: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٢: ١٧١) وَقَوْلُهُ فِيهِمْ مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (١٦: ١٠٨) وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْجَاثِيَةِ: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٤٥: ٢٣) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ بَعْدَ ذِكْرِ هَلَاكِ عَادٍ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ (٤٦: ٢٦) وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٨: ٢٠ - ٢٣)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute