(٦٣: ٧) أَيْ لَا يَفْقَهُونَ سِرَّ كِفَايَةِ اللهِ تَعَالَى رَسُولَهَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَفَالَتِهِ لَهُمْ، وَلَا يَفْقَهُونَ أَنَّ سَبَبَ إِنْفَاقِ الْأَنْصَارِ الْأَبْرَارِ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ، الَّذِي هُوَ أَقْوَى الْبَوَاعِثِ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِمْ قَوْلُهُمْ: لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - إِلَّا احْتِقَارُهُمْ لَهُمْ عَلَى نِفَاقِهِمْ، وَثَبَاتُهُمْ هُمْ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ - لَا يَفْقَهُونَ هَذَا وَلَا ذَاكَ; لِأَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ وِجْدَانِ الْإِيمَانِ، وَإِيثَارِ مَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْفَانِيَةِ مِنْ مَتَاعٍ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ نَفْيَ الْفَقَاهَةِ عَنْ قُلُوبِ الْمَخْلُوقِينَ لِجَهَنَّمَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا، وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَأُمُورِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ عَلَاقَتِهَا بِالدِّينِ وَتَكْمِيلِ النَّفْسِ. وَمِنَ الْعِبْرَةِ فِيهِ: أَنَّ الَّذِينَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا مَا ذُكِرَ، وَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ مَنْ فَقِهَهُ فَهُوَ الْمَخْلُوقُ لِلْجَنَّةِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْقَهْهُ مَخْلُوقٌ لِجَهَنَّمَ، بَلْ صَارَ كَثِيرٌ مِمَّنْ لَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا إِسْلَامٍ يَفْقَهُونَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى الْمُشَارَ إِلَى بَعْضِهَا فِي الْقُرْآنِ مَا لَا يَفْهَمُونَ، كَأَسْبَابِ النَّصْرِ فِي الْحَرْبِ ; وَلِذَلِكَ نَرَاهُمْ يُنْصَرُونَ فِيهَا عَلَى هَؤُلَاءِ. وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٤٧: ٤) وَيَقُولُ فِيهِمْ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْصُرُهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ، بَلْ إِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى الْإِيمَانِ هُمُ الَّذِينَ يَفْقَهُونَ أَسْبَابَ النَّصْرِ الْمَادِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ. وَفَقَاهَةُ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْعَمَلَ بِمُوجِبِهِ، وَالْآيَاتُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْجُغْرَافِيِّينَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ لَدَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ وَأَخْلَاقِ الْإِيمَانِ أَكْثَرَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِهَا مَرْتَبَةَ الْإِيمَانِ الْإِسْلَامِيِّ الْكَامِلِ، ثُمَّ إِنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ يَعُدُّونَ جَهْلَهُمْ وَخِذْلَانَهُمْ حُجَّةً عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ هُوَ سَبَبُ حِرْمَانِهِمُ النَّصْرَ، وَالتَّرَقِّيَ فِي مَعَارِجِ الْعُمْرَانِ - ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْرُونَ مَا الْكِتَابُ
وَمَا الْإِيمَانُ، فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ أَجْهَلُ وَأَضَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا حُجَّةً عَلَى الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَفْقَهُونَ بِهَا ; لِأَنَّ إِثْبَاتَ خَلْقِ الْقُلُوبِ لَهُمْ، هُوَ مَوْضِعُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْبِيرُ الْآخَرُ يَصْدُقُ بِأَمْرَيْنِ: بِعَدَمِ وُجُودِ الْقُلُوبِ لَهُمْ بِالْمَرَّةِ، وَبِوُجُودِ قُلُوبٍ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى لَا تَقُومُ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتُوا آلَةَ التَّكْلِيفِ وَهُوَ الْعَقْلُ وَالْوِجْدَانُ، فَلَا تَكُونُ الْعِبَارَةُ نَصًّا فِي قِيَامِ الْحُجَّةِ لِاحْتِمَالِهَا عَدَمَ التَّكْلِيفِ. وَإِنَّمَا قَالَ: لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَمْ يَقُلْ: " لَا تَفْقَهُ " ; لِبَيَانِ أَنَّهُمْ هُمُ الْمُؤَاخَذُونَ بِعَدَمِ تَوْجِيهِ إِرَادَتِهِمْ لِفِقْهِ الْأُمُورِ، وَاكْتِنَاهِ الْحَقَائِقِ، وَيُقَالُ مِثْلُ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَهُوَ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute