وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ أَيْ: ادْعُوهُ بِهَا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَاتْرُكُوا وَأَهْمِلُوا بِلَا مُبَالَاةٍ جَمِيعَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِالْمَيْلِ بِأَلْفَاظِهَا أَوْ مَعَانِيهَا عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ الْوَسَطِ، إِلَى بِنْيَاتِ الطَّرِيقِ وَمُتَفَرِّقِ السُّبُلِ، مِنْ تَحْرِيفٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ تَشْبِيهٍ أَوْ تَعْطِيلٍ، أَوْ شِرْكٍ أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، أَوْ مَا يُنَافِي وَصْفَهَا بِالْحُسْنَى وَهُوَ مُنْتَهَى الْكَمَالِ، ذَرُوا هَؤُلَاءِ الْمُلْحِدِينَ، وَلَا تُبَالُوا بِهِمْ، وَكَأَنَّ قَائِلًا يَقُولُ: وَلِمَاذَا نَذَرُهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَعْمَهُونَ؟ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَيْ: سَيَلْقَوْنَ جَزَاءَ عَمَلِهِمْ عَنْ قَرِيبٍ، بَعْضُهُمْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا يَعُمُّهُمْ جَمِيعَهُمْ عِقَابُ الْآخِرَةِ، إِلَّا مَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْمَوْتِ.
وَإِنَّنَا نُفَصِّلُ هَذَا التَّفْسِيرَ الْإِجْمَالِيَّ بَعْضَ التَّفْصِيلِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَنَقُولُ:.
" ذَرُوا " أَمْرٌ لَمْ يَرِدْ فِي اللُّغَةِ اسْتِعْمَالُ مَاضِيهِ وَلَا مَصْدَرِهِ، وَهُوَ بِمَعْنَى التَّرْكِ وَالْإِهْمَالِ، فَهُوَ بِوَزْنِ وَدَعَ الشَّيْءَ يَدَعُهُ وَدْعًا، وَمَعْنَاهُ، إِلَّا أَنَّ هَذَا قَدِ اسْتُعْمِلَ مَاضِيهِ وَمَصْدَرُهُ قَلِيلًا، وَذَاكَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ مِنْهُ إِلَّا الْمُضَارِعُ " يَذَرُ " وَالْأَمْرُ " ذَرْ " وَتَعَدَدَّ ذِكْرُهَا فِي التَّنْزِيلِ، وَزَعَمَ الرَّاغِبُ فِي مُفْرَدَاتِهِ أَنَّ مَعْنَاهُ: قَذْفُ الشَّيْءِ لِقِلَّةِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، وَأَوْرَدَ مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَى شَاهِدٍ وَاحِدٍ يُخَالِفُهُ فِي الظَّاهِرِ، وَوَعَدَ بِبَيَانِ دُخُولِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَلَعَلَّهُ يَعْنِي تَفْسِيرَهُ لِلْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا (٢: ٢٣٤) وَلَمْ يَقُلْ: وَيَتْرُكُونَ وَيَخْلُفُونَ، وَلَعَلَّهُ أَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ: وَيَتْرُكُونَ أَزْوَاجَاهُنَ عُرْضَةً لِلْإِهْمَالِ، وَعَدَمِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، فَلْيُوصُوا لَهُنَّ، وَإِلَّا كَانُوا هُمُ الْمُهْمِلِينَ لَهُنَّ، وَالْقَاذِفِينَ بِهِنَّ فِي بَيْدَاءِ الْإِهْمَالِ وَالْحَاجَةِ. وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُخَلَّفِينَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ (٤٨: ١٥) وَكُلُّ مَا عَدَاهُ مِنَ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ يَظْهَرُ فِيهِ مَعْنَى التَّرْكِ لِعَدَمِ الْمُبَالَاةِ وَالِاهْتِمَامِ. لَا الْقَذْفِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي نَاقَةِ صَالِحٍ حِكَايَةً عَنْهُ: فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ (٧: ٧٣) وَأَظْهَرُ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ (٣: ١٧٩) أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ (٧: ١٢٧) رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ (٧١: ٢٦) وَيَذْرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٧٦: ٢٧) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (٢٦: ١٦٦) وَتَذْرُونَ الْآخِرَةَ
(٧٥: ٢١) ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٦: ٩١) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (٦: ١١٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٣: ٨٣) إِلَخْ.
وَأَمَّا الْإِلْحَادُ فَمَعْنَاهُ الْعَامُّ الْمَيْلُ وَالِازْوِرَارُ عَنِ الْوَسَطِ حِسًّا أَوْ مَعْنًى، وَالْأَوَّلُ الْأَصْلُ فِيهِ كَأَمْثَالِهِ، وَمِنْهُ لَحْدُ الْقَبْرِ لِلْمَيِّتِ، وَهُوَ مَا يُحْفَرُ فِي جَانِبِ الْقَبْرِ مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مَائِلًا عَنْ وَسَطِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute