وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣٠: ٤٧) (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٢٣: ٦٨، ٦٩) ، وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ مَثَلًا رَجُلًا يُرْسِلُ كِتَابًا إِلَى آخَرَ فَيَقْرَؤُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ هَذْرَمَةً أَوْ يَتَرَنَّمُ بِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ إِجَابَةَ مَا طَلَبَ فِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ الرَّسُولَ أَوْ غَيْرَهُ: مَاذَا قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِيهِ، وَمَاذَا يُرِيدُ مِنْهُ؟ أَيَرْضَى الْمُرْسِلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِهَذَا أَمْ يَرَاهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ؟ فَالْمَثَلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يُقَاسُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُرْسَلُ لِأَجْلِ وَرَقِهِ، وَلَا لِأَجْلِ نُقُوشِهِ،
وَلَا لِأَجْلِ أَنْ تُكَيِّفَ الْأَصْوَاتُ حُرُوفَهُ وَكَلِمَهُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ مُرَادَ الْمُرْسَلِ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِهِ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ بِالْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ بِالتَّدَبُّرِ، وَأَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ - وَلَوْ قَلِيلَةً - بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمَنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْقَارِئِينَ أَنْ يَقْرَءُوا لَهُ الْقُرْآنَ وَيُفْهِمُوهُ مَعْنَاهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ التَّشْكِيكِ فِيهِ.
أَقَامَ اللهُ - تَعَالَى - الْحُجَجَ الدَّامِغَةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ثُمَّ نَادَاهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِ أَسْبَابِ الْغُرُورِ الْمَانِعِ فِي الْإِيْمَانِ فَقَالَ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) ، وَقَدْ سَبَقَ التَّذْكِيرُ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فِي أَوَّلِ الْمُحَاجَّةِ ثُمَّ أُعِيدَ هُنَا لِلْمُنَاسَبَةِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ بَعْدَ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَدَبُّرِ الْكِتَابِ وَالتَّفَقُّهِ فِيهِ هُوَ كُفْرٌ بِهِ، ذَكَّرَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِمَنْ كَرَّمَهُ رَبُّهُ، وَفَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الشُّعُوبِ بِإِيتَائِهِ الْكِتَابَ أَنْ يَكُونَ حَظُّهُ مِنْهُ كَحَظِّ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. فَإِذَا كَانَ ابْتَدَأَ الْعِظَةَ وَالدَّعْوَةَ بِذِكْرِ هَذَا التَّفْضِيلِ لِتَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا الْأَنْظَارُ، وَتُصْغِيَ إِلَيْهَا الْأَسْمَاعُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى (٢: ٤٧) فَلَا غَرْوَ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا التَّفْضِيلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute