للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا مِنَ السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ وَالسَّاعَةِ الْفَلَكِيَّةِ، وَقَالَ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ: يُقَالُ جَلَسْتُ عِنْدَكَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ أَيْ وَقْتًا قَلِيلًا مِنْهُ ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِاسْمِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى السَّاعَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ: الْوَقْتُ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ الْقِيَامَةُ - يُرِيدُ أَنَّهَا سَاعَةُ خَفِيفَةٌ يَحْدُثُ فِيهَا أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَلِقِلَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي تَقُومُ فِيهِ سَمَّاهَا سَاعَةً اهـ أَقُولُ: الصَّوَابُ أَنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ فِي الْقُرْآنِ مُنَكَّرَةً بِمَعْنَى السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ، وَمُعَرَّفَةً بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ الْعَهْدِيَّةِ بِمَعْنَى السَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهِيَ سَاعَةُ خَرَابِ هَذَا الْعَالَمِ، وَمَوْتِ أَهْلِ الْأَرْضِ، وَجَمَعَ بَيْنِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ (٣٠: ٥٥) وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ هُوَ وَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِالسَّاعَةِ.

وَالْغَالِبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ التَّعْبِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ عَنْ يَوْمِ الْبَعْثِ وَالْحَشْرِ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ، الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْحِسَابُ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنَ الْجَزَاءِ - وَالتَّعْبِيرُ بِالسَّاعَةِ عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْأَحْيَاءُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَيَضْطَرِبُ نِظَامُهُ وَيَخْرَبُ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا، فَالسَّاعَةُ هِيَ الْمَبْدَأُ، وَالْقِيَامَةُ هِيَ الْغَايَةُ، فَفِي الْأُولَى

الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ. وَبَعْضُ التَّعْبِيرَاتِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا يُحْتَمَلُ حُلُولُهُ مَحَلَّ الْآخَرِ فِي الْغَالِبِ، وَفِي الْمَعْنَى الْمُشْتَرَكِ الَّذِي يَعُمُّ الْمَبْدَأَ وَالْغَايَةَ. وَحَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْآيَاتِ عَلَى الْقِيَامَةِ الصُّغْرَى لِكُلِّ فَرْدٍ وَهِيَ سَاعَةُ مَوْتِهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمُ الْقِيَامَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ هَلَاكُ الْجِيلِ أَوِ الْقَرْنِ، وَفَسَّرُوا بِهِ حَدِيثَ " إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرُوا السَّاعَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَدْ يُرَادُ بِالسَّاعَةِ هُنَا سَاعَةُ زَوَالِ الدَّوْلَةِ; لِأَنَّ هَذَا مِنْ شُئُونِهَا، وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا. وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنْ صَحِيحٍ مُسْلِمٍ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ فَنَظَرَ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَقَالَ " إِنَّ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهِرَمُ قَامَتْ عَلَيْكُمْ سَاعَتُكُمْ " وَمِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَهُ أَيْضًا وَهُوَ أَصْرَحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِإِضَافَةِ السَّاعَةِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الدَّاوُودِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُمْ: لَا أَدْرِي - ابْتِدَاءً مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْجَفَاءِ، وَقَبْلَ تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ - لَارْتَابُوا، فَعَدَلَ إِلَى إِعْلَامِهِمْ بِالْوَقْتِ الَّذِي يَنْقَرِضُونَ هُمْ فِيهِ. وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيْ دَعُوا السُّؤَالَ عَنْ وَقْتِ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى فَإِنَّهَا لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ، وَاسْأَلُوا عَنِ الْوَقْتِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ انْقِرَاضُ عَصْرِكُمْ فَهُوَ أَوْلَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَعْرِفَتَكُمْ تَبْعَثُكُمْ عَلَى مُلَازَمَةِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ فَوْتِهِ ; لِأَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَنِ الَّذِي يَسْبِقُ الْآخَرَ اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ بِأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مَعْمُولٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فِي قُرْبِ السَّاعَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ (١٦: ١) وَقَوْلِهِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>