يَسْأَلُونَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ قَدْ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا كَانَ يَظُنُّ بَعْضُ حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ أَنَّ الرَّسُولَ قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَمَنْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ يُحِبُّ أَوْ يَشَاءُ، أَوْ مَنْعِ النَّفْعِ وَإِحْدَاثِ الضُّرِّ بِمَنْ يَكْرَهُ أَوْ بِمَنْ يَشَاءُ. فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الرَّسُولِ التَّعْلِيمُ وَالْإِرْشَادُ، لَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ بِوَحْيهِ، وَأَنَّهُ فِيمَا عَدَا تَبْلِيغِ الْوَحْيِ عَنِ اللهِ تَعَالَى بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ (١٨: ١١٠) قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا أَيْ: قُلْ أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ: إِنَّنِي لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي - أَيْ وَلَا لِغَيْرِي بِالْأَوْلَى - جَلْبَ نَفْعٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، وَلَا دَفْعَ ضَرَرٍ مَا فِي وَقْتٍ مَا، فَوُقُوعُ كَلِمَتَيِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ نَكِرَتَيْنِ مَنْفِيَّتَيْنِ يُفِيدُ الْعُمُومَ حَسَبِ الْقَاعِدَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَنَفْيُ عُمُومِ الْفِعْلِ يَقْتَضِي نَفْيَ عُمُومِ الْأَوْقَاتِ لَهُ. وَلَكِنَّ هَذَا الْعُمُومَ مُشْكِلٌ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنْ تَمَكُّنِ كُلِّ إِنْسَانٍ سَلِيمِ الْأَعْضَاءِ مِنْ نَفْعِ نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ الْكَسْبِيَّةِ، وَدَفْعِ بَعْضِ الضَّرَرِ عَنْهَا ; وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الشَّرِيعَةُ الضَّرَرَ وَالضِّرَارَ.
وَيُجَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا مُسْتَقِلًّا بِقُدْرَتِهِ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ ذَلِكَ بِتَمْلِيكِ الرَّبِّ الْخَالِقِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَيْ لَا أَمْلِكُ مِنْهُمَا (إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ) مِنْ نَفْعٍ أَقْدَرَنِي عَلَى جَلْبِهِ، وَضُرٍّ أَقْدَرَنِي عَلَى مَنْعِهِ، وَسَخَّرَ لِي أَسْبَابَهُمَا، أَوْ إِلَّا وَقْتَ
مَشِيئَتِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى الْمُرَادُ عَلَى هَذَا هُوَ بَيَانُ عَجْزِ الْمَخْلُوقِ الذَّاتِيِّ، وَكَوْنُ كُلِّ شَيْءٍ أُوتِيَهُ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، لَا يَسْتَقِلُّ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ مِنْهُ اسْتِقْلَالًا مُطْلَقًا، وَلَا هُوَ يَمْلِكُهُ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، بَلْ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِهِ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْلِكُ بِمُقْتَضَى مَنْصِبِ الرِّسَالَةِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا لِنَفْسِهِ بِمَنْطُوقِ الْجُمْلَةِ، وَلَا لِغَيْرِهِ بِمَفْهُومِهَا الْأَوْلَى، مِمَّا يَعْجَزُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى بَشَرِيَّتِهِ، وَمَا أَقْدَرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِهِ فِي عَالَمِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْخَالِقِ دُونَ الْمَخْلُوقِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ عَلَى هَذَا مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ مُؤَكِّدٌ لِعُمُومِهِ، أَيْ لَكِنَّ مَا شَاءَ اللهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ كَانَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ (٨٧: ٦، ٧) وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا (٦: ٨٠) وَقَوْلِهِ فِي خِطَابِ كَلِيمِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute