مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ [٠٢٧ ٠١١] إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ (٢٧: ١٠، ١١) الْآيَةَ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ فُتِنُوا مُنْذُ قَوْمِ نُوحٍ بِمَنِ اصْطَفَاهُمُ اللهُ وَوَفَّقَهُمْ لِطَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَنْ دُونَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَجَعَلُوهُمْ شُرَكَاءَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ عِبَادُهُ مِنْ نَفْعٍ يَسُوقُهُ إِلَيْهِمْ، وَمَا يَخْشَوْنَهُ مِنْ شَرٍّ يَمَسُّهُمْ، فَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ، وَصَارُوا يَدْعُونَهُمْ كَمَا يَدْعُونَهُ لِذَلِكَ إِمَّا اسْتِقْلَالًا، وَإِمَّا إِشْرَاكًا ; إِذْ مِنْهُمْ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَعْطَاهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ بِمَا هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الَّتِي مَنَحَهَا اللهُ تَعَالَى لِسَائِرِ النَّاسِ، فَصَارُوا يَسْتَقِلُّونَ بِالنَّفْعِ وَالضُّرِّ مَنْحًا وَمَنْعًا، وَإِيجَابًا وَسَلْبًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ التَّصَرُّفَ الْغَيْبِيَّ الْأَعْلَى الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ الْمَمْنُوحَةِ لِلْبَشَرِ خَاصٌّ بِرَبِّهِمْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَكِنَّهُمْ يَظُنُّونَ مَعَ هَذَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى كَوُزَرَاءِ الْمُلُوكِ وَحُجَّابِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ، وُسَطَاءُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَصِلْ إِلَى رُتْبَتِهِمْ، فَالْمَلِكُ الْمُسْتَبِدُّ بِسُلْطَانِهِ يُعْطِي هَذَا، وَيَعْفُو عَنْ ذَنْبِ هَذَا بِوَسَاطَةِ هَؤُلَاءِ الْوُزَرَاءِ وَالْحُجَّابِ الْمُقَرِّبِينَ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُعْطِي وَيَمْنَعُ وَيَغْفِرُ وَيَرْحَمُ وَيَنْتَقِمُ بِوَسَاطَةِ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِزَعْمِهِمْ، فَهُمْ شُفَعَاءُ لِلنَّاسِ عِنْدَهُ تَعَالَى
يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَيْهِ زُلْفَى كَمَا حَكَاهُ التَّنْزِيلُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَبَيَّنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا التَّشْبِيهِ الْوَثَنِيِّ، وَتَمْثِيلِ تَصَرُّفِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ الْغَنِيِّ عَنْ عِبَادِهِ بِتَصَرُّفِ الْمُلُوكِ الْمُسْتَبِدِّينَ الْجَاهِلِينَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إِلَى وُزَرَائِهِمْ وَبِطَانَتِهِمْ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَهُ فِيهِمْ - قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ (١٦: ٧٤) وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ رُسُلَ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ صَفْوَةُ خَلْقِهِ لَا يُشَارِكُونَ اللهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي عِلْمِهِ، وَلَا فِي مَشِيئَتِهِ ; لِأَنَّهَا كَامِلَةٌ أَزَلِيَّةٌ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا تَغَيُّرٌ، وَأَنَّ الرِّسَالَةَ الَّتِي اخْتَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَا لَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا إِقْدَارُهُمْ عَلَى النَّفْعِ وَالضُّرِّ بِسُلْطَانٍ فَوْقَ الْأَسْبَابِ الْمُسَخَّرَةِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ، وَلَا مَنْحُهُمْ عِلْمَ الْغَيْبِ، وَإِنَّمَا تَبْلِيغُ وَحْيِ اللهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ لِلنَّاسِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْحُكْمِ.
وَدَلِيلُنَا عَلَى اخْتِيَارِ هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ مَدَارَ الْعُبُودِيَّةِ عَلَى تَوَجُّهِ الْعِبَادِ إِلَى الْمَعْبُودِ فِيمَا يَرْجُونَ مِنْ نَفْعٍ وَيَخَافُونَ مِنْ ضُرٍّ، فَاسْتُعْمِلَ اللَّفْظَانِ فِي التَّنْزِيلِ فِي بَيَانِ أَنَّ الرَّبَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْعِبَادَةِ هُوَ مَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، غَيْرَ خَاضِعٍ وَلَا مُقَيَّدٍ بِالْأَسْبَابِ الْعَادِيَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٥: ٧٦) وَقَوْلِهِ فِي عِجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٢٠: ٨٩) وَقَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا (٤٨: ١١) وَقَوْلِهِ: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute