للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(١٣: ١٦) وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (٢٥: ٣) الْآيَةَ.

فَلَمَّا كَانَ مِلْكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ خَاصًّا بِرَبِّ الْعِبَادِ وَخَالِقِهِمْ، وَكَانَ طَلَبُ النَّفْعِ أَوْ كَشْفُ الضُّرِّ عِبَادَةً لَا يَجُوزُ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِهِ مَهْمَا يَكُنْ فَضْلُهُ تَعَالَى عَظِيمًا عَلَيْهِمْ - أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَرِّحَ بِالْبَلَاغِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْأَمْرُ لَهُ فِي الْقُرْآنِ مُبَالَغَةً فِي تَقْرِيرِهِ وَتَوْكِيدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ

اللهُ (١٠: ٤٩) الْآيَةَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (٧٢: ٢١) وَهَذِهِ الْآيَةُ أَبْلَغُ وَأَشْمَلُ مِمَّا فِي مَعْنَاهَا بِمَا فِيهَا مِنْ إِيجَازٍ وَاحْتِبَاكٍ بِحَذْفِ مَا يُقَابِلُ الضُّرَّ وَالرُّشْدَ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُمَا ضِدَّاهُمَا بِدَلَالَتِهِمَا عَلَيْهِمَا، وَالتَّقْدِيرُ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا رُشْدًا وَلَا غِوَايَةً، وَهَذِهِ الْآيَاتُ بِمَعْنَى مَا هُنَا تُؤَيِّدُ اخْتِيَارَنَا.

ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ مُسْتَدِلًّا عَلَيْهِ بِانْتِفَاءٍ أَظْهَرِ مَنَافِعِهِ الْقَرِيبَةِ فَقَالَ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الْخَيْرُ مَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ كَالْمَالِ وَالْعِلْمِ، وَالسُّوءُ مَا يَرْغَبُونَ عَنْهُ مِمَّا يَسُوءُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ، وَيُرَادُ بِهِمَا هُنَا الْجِنْسُ الَّذِي يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَفْرَادِهِ وَهُوَ الْخَيْرُ الَّذِي يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَحْصِيلُهُ، وَالسُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاسْتِعْدَادُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ مَا يَأْتِي بِهِ الْغَدُ. وَالْجُمْلَةُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى نَفْيِ عِلْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَيْبَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ - وَأَقْرَبَهُ مَا يَقَعُ فِي مُسْتَقْبَلِ أَيَّامِي فِي الدُّنْيَا - لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ كَالْمَالِ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ عُسْرَةٍ وَغَلَاءٍ مَثَلًا وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، وَلَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ الَّذِي يُمْكِنُ الِاحْتِيَاطُ لِدَفْعِهِ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، كَشِدَّةِ الْحَاجَةِ مَثَلًا، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْعِبَادَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: " لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسَتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ وَلَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ " رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا - يَعْنِي لَوْ أَنَّهُ عَلِمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَحْصُلُ مِنَ انْفِرَادِهِ دُونَ أَصْحَابِهِ بِسَوْقِهِ الْهَدْيَ إِلَى الْحَرَمِ مِنْ مَشَقَّةِ فَسْخِهِمُ الْحَجَّ إِلَى عُمْرَةٍ دُونَهُ ; إِذْ لَا يُبَاحُ الْفَسْخُ وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ لِمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، لَمَا سَاقَ الْهَدْيَ لِيُوَافِقَ الْجُمْهُورَ فِي تَمَتُّعِهِمْ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْإِدَارَةِ وَسِيَاسَةِ الْحَرْبِ مَا عَاتَبَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْأَعْمَى وَالتَّصَدِّي لِلْأَغْنِيَاءِ، وَمِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنْ أَسْرَى بَدْرٍ، وَمِنَ الْإِذْنِ بِتَخَلُّفِ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ سَنَةَ الْعُسْرَةِ، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا نَبَّهَ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>