للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ مُسْتَأْنَفٌ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَمَعْنَاهُ: وَمَا مَسَّنِيَ الْجُنُونُ كَمَا زَعَمَ الْجَاهِلُونَ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَعْنَى الْآيَةِ نَفْيَ رَفْعِهِ إِلَى رُتْبَةِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّذِي افْتُتِنَ بِمِثْلِهِ الْغُلَاةُ، وَنَفْيَ وَضْعِهِ فِي أَدْنَى مَرْتَبَةِ الْبَشَرِيَّةِ الَّذِي زَعَمَتْهُ الْغُوَاةُ الْعُتَاةُ.

وَبَيَانَ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَمَا رَفَعَ اللهُ تَعَالَى مِنْ قَدْرِهِ، بِجَعْلِهِ فَوْقَ جَمِيعِ الْبَشَرِ بِوَحْيِهِ، وَوَسَاطَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، لَكِنْ فِي التَّبْلِيغِ وَالْإِرْشَادِ، لَا فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَلَا فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ الْعِبَادِ ; فَإِنَّ هَذَا شَأْنُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي أَعْلَى مَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ.

وَمِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ فِي الْقُرْآنِ بِتَقْدِيمِ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُقَابِلُهُ فِي آيَةٍ وَتَأْخِيرِهِ فِي أُخْرَى: تَقْدِيمُ النَّفْعِ عَلَى الضُّرِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَتَأْخِيرُهُ وَتَقْدِيمُ الضُّرِّ عَلَيْهِ فِي آيَةِ سُورَةِ يُونُسَ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَالْفَرْقُ الْمُحَسِّنُ لِذَلِكَ أَنَّ آيَةَ الْأَعْرَافِ جَاءَتْ بَعْدَ السُّؤَالِ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ وَأَكْبَرُ فَوَائِدِ الْعِلْمِ بِالسَّاعَةِ، وَهُوَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ - الِاسْتِعْدَادُ لَهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَاتِّقَاءُ أَسْبَابِ الْعِقَابِ فِيهَا، فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْبَدْءَ بِنَفْيِ مِلْكِ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْدَادِ، وَتَأْخِيرُ مِلْكِ الضُّرِّ الْمُرَادُ بِهِ مِلْكُ دَفْعِهِ وَاتِّقَاءِ وُقُوعِهِ، وَأَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ حَتَّى فِيمَا دُونَ السَّاعَةِ زَمَنًا وَعَظُمَ شَأْنُهُ لَاسْتَكْثَرَ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَاتَّقَى أَسْبَابَ مَا يَمَسُّهُ مِنَ السُّوءِ فِيهِ كَالْأَمْثِلَةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا.

وَأَمَّا آيَةُ سُورَةِ يُونُسَ، فَقَدْ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَمَارِي الْكُفَّارِ فِيمَا أَوْعَدَهُمُ اللهُ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ رَسُولُهُ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، وَاسْتِعْجَالِهِمْ إِيَّاهُ تَهَكُّمًا وَمُبَالَغَةً فِي الْجُحُودِ، فَنَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ فِي جَوَابِهِمْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لَهُمْ ضُرًّا كَتَعْجِيلِ الْعَذَابِ الَّذِي يُكَذِّبُونَ بِهِ، وَلَا نَفْعًا كَالنَّصْرِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعَذَابِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَقَدْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَلِّغَهُمْ أَنَّ أَمْرَ عَذَابِهِمْ تَعْجِيلًا أَوْ تَأْخِيرًا لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، كَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ عَلَى مَا اقْتَرَحُوهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ تَعَالَى مِنْ مُقْتَرَحَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ مِنْ تَفْجِيرِ يَنْبُوعٍ فِي مَكَّةَ، وَإِيجَادِ جَنَّةٍ تَتَفَجَّرُ الْأَنْهَارُ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا، أَوْ إِسْقَاطِ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ كِسَفًا - وَهُوَ مِنَ الْعَذَابِ - إِلَخْ. وَمِنْ أَمْرِهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (١٧: ٩٣) وَقَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (١٧: ٥٤) أَيْ مُوَكَّلًا بِأَمْرِ ثَوَابِهِمْ وَعِقَابِهِمْ مُنَفِّذًا لَهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ: وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ

بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (١٣: ٤٠) .

وَهَاكَ مَا وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ فِي الْآيَةِ عَنْ تَفْسِيرِ الْحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ قَالَ: " أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُفَوِّضَ الْأُمُورَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ الْمُسْتَقْبَلَ

<<  <  ج: ص:  >  >>