وَلَا اطِّلَاعَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَطْلَعَهُ اللهُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٧٢: ٢٦) الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قَالَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَعَمِلْتُ عَمَلًا صَالِحًا، وَكَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ مِثْلَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَفِيهِ نَظَرٌ; لِأَنَّ عَمَلَ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ دِيمَةً، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، فَجَمِيعُ عَمَلِهِ كَانَ عَلَى مِنْوَالٍ وَاحِدٍ، كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، اللهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنْ يُرْشِدَ غَيْرَهُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ وَاللهُ أَعْلَمُ. " وَالْأَحْسَنُ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الضَّحَاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أَيْ: مِنَ الْمَالِ، وَفِي رِوَايَةٍ لَعَلِمْتُ إِذَا اشْتَرَيْتُ شَيْئًا مَا أَرْبَحُ فِيهِ فَلَا أَبِيعُ شَيْئًا إِلَّا رَبِحْتُ فِيهِ وَلَا يُصِيبُنِي الْفَقْرُ، وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَعْدَدْتُ لِلسَّنَةِ الْمُجْدِبَةِ مِنَ الْمُخْصِبَةِ، وَلِوَقْتِ الْغَلَاءِ مِنَ الرُّخْصِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ قَالَ: لَاجْتَنَبْتُ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّرِّ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَأَتَّقِيهِ. " اهـ. وَمَا قُلْنَاهُ أَعَمُّ وَأَصَحُّ.
هَذَا وَإِنَّنَا قَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ (٦: ٥٠) أَنَّ الْغَيْبَ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَإِضَافِيٌّ يَعْلَمُهُ بَعْضُ الْخَلْقِ دُونَ بَعْضٍ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَنْفِي قُدْرَةَ الرَّسُولِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي خَلْقِ اللهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ فَوْقَ كَسْبِ الْبَشَرِ، وَتَنْفِي عَنْهُ عِلْمَ الْغَيْبِ بِهَذَا الْمَعْنَى، إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ بِوَحْيهِ لِتَعَلُّقِهِ بِوَظِيفَةِ الرِّسَالَةِ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْحِسَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ - وَأَنَّ مَا يُطْلِعُ اللهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ عِلْمِهِمُ الْكَسْبِيِّ، بَلْ يَدْخُلُ فِي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرَ مُكْتَسَبَةٍ.
وَأَوْرَدْنَا هُنَالِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ سُورَةِ الْجِنِّ: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ إِلَى قَوْلِهِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ (٧٢: ٢٦ - ٢٨) الْآيَةَ، وَاسْتَطْرَدْنَا إِلَى تَفْنِيدِ مَا يَدَّعِيهِ بَعْضُ مَشَايِخِ طُرُقِ الصُّوفِيَّةِ أَوْ يُدَّعَى لَهُمْ، مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَالتَّصَرُّفِ فِي مُلْكِ اللهِ أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتًا بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا ثُمَّ أَطَلْنَا الْبَحْثَ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ فِي تَفْسِيرِ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (٦: ٥٩) الْآيَةَ، وَتَكَلَّمْنَا فِيهِ عَنِ الْكَشْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَسْأَلَةِ الْغَيْبِ الْإِضَافِيِّ أَوِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ تُسَمَّى غَيْبًا; لِأَنَّ لَهَا أَسْبَابًا فِطْرِيَّةً. وَفِي الْكَلَامِ عَلَى أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الَّذِي مَرَّ بِكَ قَرِيبًا بَحْثٌ فِيمَا أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهِ رَسُولَهُ بِمَا دُونَ الْوَحْيِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute