للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ، وَكُلِّ مَا نُدِبَ إِلَيْهِ وَنُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُحْسِنَاتِ وَالْمُقَبَّحَاتِ، وَهُوَ مِنَ الصِّفَاتِ الْغَالِيَةِ، أَيْ أَمْرٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَ النَّاسِ إِذْ رَأَوْهُ لَا يُنْكِرُونَهُ، وَالْمَعْرُوفُ النَّصَفَةُ وَحُسْنُ الصُّحْبَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمُنْكَرُ ضِدُّ ذَلِكَ جَمِيعِهِ اهـ.

وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الْمَعْرُوفَ عَلَى ضِدِّ الْمُنْكَرِ وَعَلَى ضِدِّ الْمَجْهُولِ، وَالْمُنْكَرُ هُوَ الْمُسْتَقْبَحُ عِنْدَ النَّاسِ الَّذِي يَنْفِرُونَ مِنْهُ لِقُبْحِهِ أَوْ ضَرَرِهِ، وَيَذُمُّونَهُ وَيَذُمُّونَ أَهْلَهُ. وَالْأَمْرُ بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ، يُثْبِتُ لَنَا أَنَّ الْعُرْفَ أَوِ الْمَعْرُوفَ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ لِلْآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالتَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ عَادَاتِ الْأُمَّةِ الْحَسَنَةِ، وَمَا تَتَوَاطَأُ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ النَّافِعَةِ فِي مَصَالِحِهَا، حَتَّى إِنَّ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَيَّدَ طَاعَةَ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَعْرُوفِ فِي عَقْدِ مُبَايَعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنِّسَاءِ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ

فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٠: ١٢) وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ عَقْدَ الْمُبَايَعَةِ أَعْظَمُ الْعُقُودِ فِي الْأُمَمِ وَالدُّوَلِ، فَتَقْيِيدُ طَاعَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ بِالْمَعْرُوفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْتِزَامَ الْمَعْرُوفِ مِنْ أَعْظَمِ أَرْكَانِ هَذَا الدِّينِ وَشَرْعِهِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ فِي السُّنَّةِ أَنَّ مُبَايَعَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلرِّجَالِ كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى أَصْلِ مُبَايَعَتِهِ لِلنِّسَاءِ الْمَنْصُوصِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ وَهُوَ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الصَّحِيحِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ (الْأَعْرَافِ) وَصْفُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بِشَارَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ (٧: ١٥٧) وَوَرَدَ فِي ذِكْرِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِيمَا حَكَاهُ تَعَالَى مِنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ فِي السُّورَةِ الْمُسَمَّاةِ بِاسْمِهِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كَالْأَعْرَافِ، ثُمَّ تَكَرَّرَ ذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَذَلِكَ فِي عَشَرَاتٍ مِنَ الْآيَاتِ، بَعْضُهَا فِي صِفَةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَحُكُومَاتِهَا، وَأَكْثَرُهَا فِي الْأَحْكَامِ الزَّوْجِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ. فَمِنَ النَّوْعِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ الْإِذْنِ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ، فَذَكَرَ مِنْ صِفَاتِ الْمَأْذُونِ لَهُمْ بِهِ أَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢: ٤١) وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣: ١٠٤) وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ (٣: ١١٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>