بَنَاتَهُنَّ لِمَنْ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِنَّ وَيُضَارُّهُنَّ، كَانَ هَذَا كَالشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْهُنَّ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِي الْآيَاتِ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الشَّرْعِ، كَقَوْلِ صَاحِبِ لُبَابِ التَّأْوِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأْمُرْ بِكُلِّ مَا أَمَرَكَ اللهُ بِهِ وَعَرَفْتَهُ بِالْوَحْيِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ مُخَالِفٌ لِمَا
ذَكَرْنَا وَمَا لَمْ نَذْكُرْ مِنْ أَقْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ كُلِّ آيَةٍ، وَلَا مِنْ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنْهَا كَآيَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْمَدَنِيَّةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِيهَا عَامًّا يَشْمَلُ الْمَعْرُوفَ فِي الشَّرْعِ وَفِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَلَا يَظْهَرُ هَذَا فِي آيَةِ الْأَعْرَافِ الَّتِي هِيَ الْأَصْلُ الْأَوَّلُ; لِأَنَّهَا الْأُولَى فِي الْمَوْضُوعِ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ نَزَلَ قَبْلَهَا أَحْكَامٌ يُفَسَّرُ بِهَا الْعُرْفُ وَيُحَالُ عَلَيْهَا فِيهِ - فَمَا قَالَهُ صَاحِبُ لُبَابِ التَّأْوِيلِ هُوَ مِنْ قِشْرِهِ لَا مِنْ لُبَابِهِ، وَأَوَّلُ مَا يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْعُرْفِ الْمَعْرُوفَ بِالْوَحْيِ، يُقَالُ فِيهِ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ مَعْرُوفًا، وَبَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ صَارَ مِنْ قَبِيلِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ.
نَعَمْ إِنَّ مَا يَتَقَرَّرُ بِنَصِّ الشَّرْعِ يَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمَجْهُولِ، كَمَا أَنَّهُ يَكُونُ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الْمَعْرُوفِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ. وَيَبْقَى تَحْكِيمُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الْعَامِّ مُعْتَبِرًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ بِخُصُوصِهِ، وَلِلْأُمَّةِ فِيهِ عُرْفٌ غَيْرُ مُعَارَضٍ بِنَصٍّ، وَلَا يَسْتَقِيمُ نِظَامُ الْأُمَّةِ عَلَى أَسَاسٍ ثَابِتٍ إِذَا كَانَ أَمْرُ الْعُرْفِ وَالْمَعْرُوفِ فِيهَا فَوْضَى وَغَيْرَ مُقَيَّدٍ بِأُصُولٍ وَأَحْكَامٍ وَفَضَائِلَ ثَابِتَةٍ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ ثَابِتٍ، وَهُوَ مَا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَنَافِعُ بِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَأَحْوَالِ الْمَعِيشَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ يَحْكُمُ فِيهِ الْعُرْفُ وَهُوَ مَا يُقَابِلُهُ ; وَلِذَلِكَ جَاءَ الشَّرْعُ الْحَكِيمُ بِهِمَا مَعًا، وَلَا يَضُرُّ مَعَ هَذَا اخْتِلَافُ النَّاسِ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، فَلْيَكُنِ الْمَعْرُوفُ كَمَا قَالَ الْجَصَّاصُ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَنَفِيَّةِ: مَا يُسْتَحْسَنُ فِي الْعَقْلِ فِعْلُهُ وَلَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ الصَّحِيحَةُ، فَيَكْفِي الْمُسْلِمِينَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَنْكِرَ الْمُؤْمِنُ مَا جَاءَ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ نَصًّا حَتْمًا لَا اجْتِهَادَ فِيهِ، وَلْيَكُنْ لِلْجَمَاعَةِ بَعْدَهُ رَأْيٌ فِيمَا يَعْرِفُونَ وَيُنْكِرُونَ، وَيَسْتَحْسِنُونَ وَيَسْتَهْجِنُونَ، يَكُونُ عُمْدَتُهُمْ فِيهِ جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ الْأَدَبِ وَالْفَضِيلَةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: الْإِعْرَاضُ عَنِ الْجَاهِلِينَ، وَهُمُ السُّفَهَاءُ، بِتَرْكِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَعَدَمِ مُمَارَاتِهِمْ، وَلَا عِلَاجَ أَوْقَى لِأَذَاهُمْ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ، وَشَرُّهُمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ مُرْتَزِقَةُ صُحُفِ الْأَخْبَارِ الْمُنْتَشِرَةِ، فَإِنَّ سُفَهَاءَهَا هُمْ شَرٌّ مِنْ سُفَهَاءِ الشُّعَرَاءِ فِي الْعُصُورِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ قَلَّ سَفَهُ الشُّعَرَاءِ فِي عَصْرِنَا هَذَا فَلَا أَعْرِفُ لِشَاعِرٍ مَشْهُورٍ
مِنَ الْقَذْعِ وَالْبَذَاءِ فِي الْهَجْوِ شَيْئًا مِمَّا نَعْهَدُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالسَّاقِطَةِ، وَكَمْ مِنْ صَحِيفَةٍ قَائِمَةٍ نَاهِضَةٍ بِالثَّرْوَةِ، شَرٌّ مِنْ سَاقِطَةٍ بِالْقِلَّةِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute