وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الشَّرِّ فَقَطْ، وَإِنَّمَا قَالَ " يَنْزَغَنَّكَ نَزْغٌ " وَالْمُرَادُ نَازِغٌ ; لِأَنَّ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَصْدَرِ أَبْلَغُ، وَالشَّيْطَانُ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ وَفِي الْجِنِّ مِرَارًا، أَوْسَعُهَا مَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ (٦: ٦٨) الْآيَةَ، وَتَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ (٦: ٧١) الْآيَةَ. وَكِلْتَاهُمَا مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَتَفْسِيرُ قِصَّةِ آدَمَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الَّذِي يُنَاسِبُ مِنْهَا مَا هُنَا، وَهُوَ إِغْوَاءُ النَّاسِ بِالْوَسْوَسَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الشَّيْطَانِ: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي (٧: ١٦) إِلَخْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ (٧: ٢٧) إِلَخْ.
وَمُلَخَّصُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي وَحْيِ اللهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ أَنَّ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ خَلْقًا خَفِيًّا اسْمُهُ الشَّيْطَانُ لَا تُدْرِكُهُ حَوَاسُّنَا، لَهُ أَثَرٌ فِي أَنْفُسِنَا، فَهُوَ يَتَّصِلُ بِهَا، وَيُقَوِّي دَاعِيَةَ الشَّرِّ فِيهَا بِمَا سَمَّاهُ الْوَحْيُ وَسْوَاسًا وَنَزْغًا وَمَسًّا، وَنَحْنُ نَجِدُ أَثَرَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِنَا، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ مَصْدَرَهُ، وَقَدْ شَبَّهْنَا تَأْثِيرَ هَذِهِ الشَّيَاطِينِ الْخَفِيَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ بِتَأْثِيرِ النَّسَمِ الْخَفِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْبَكْتِرْيَا أَوْ بِالْمَيُكْرُوبَاتِ فِي الْأَجْسَادِ، فَقَدْ مَرَّتِ الْقُرُونُ الَّتِي لَا يُحْصِيهَا إِلَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَالنَّاسُ يَجْهَلُونَ هَذِهِ النَّسَمَ الْخَفِيَّةَ، وَيَجْهَلُونَ فِعْلَهَا لِعَجْزِ الْأَبْصَارِ عَنْ إِدْرَاكِهَا بِنَفْسِهَا، وَعَنْ رُؤْيَةِ فِعْلِهَا لِدِقَّتِهَا وَتَنَاهِيهَا فِي اللُّطْفِ وَالصِّغَرِ، إِلَى أَنِ اخْتُرِعَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ الْمَرَايَا أَوِ النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ الَّتِي تَرَى الْجِسْمَ أَضْعَافَ
أَضْعَافِ جِرْمِهِ، فَبِهَا رُؤِيَتْ وَعُلِمَ مَا يَحْدُثُ بِسَبَبِهَا فِي الْمَوَادِّ السَّائِلَةِ وَالرَّخْوَةِ، وَكُلِّ ذَاتِ رُطُوبَةٍ مِنَ التَّحَوُّلِ وَالتَّغْيِيرِ، كَالِاخْتِمَارِ وَالْفَسَادِ وَغَيْرِهَا وَمِنَ الْأَمْرَاضِ الْمُعْدِيَةِ فِي الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
وَحِكْمَةُ إِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذَا الْعَالَمِ الْغَيْبِيِّ الْمُعَادِي لَنَا، الضَّارِّ بِأَرْوَاحِنَا كَضَرَرِ نَسَمِ الْأَمْرَاضِ بِأَجْسَادِنَا، أَنْ نُرَاقِبَ أَفْكَارَنَا وَخَوَاطِرَنَا وَلَا نَعْقِلَ عَنْهَا، كَمَا نُرَاقِبُ مَا يَحْدُثُ فِي أَجْسَادِنَا مِنْ تَغَيُّرٍ فِي الْمِزَاجِ، وَخُرُوجِ الصِّحَّةِ مِنَ الِاعْتِدَالِ، فَنُبَادِرُ إِلَى عِلَاجِهِ - فَمَتَى فَطِنَّا بِمَيْلٍ مِنْ أَنْفُسِنَا إِلَى الشَّرِّ أَوِ الْبَاطِلِ عَالَجْنَاهُ بِمَا وَصَفَهُ اللهُ تَعَالَى لَنَا مِنَ الْعِلَاجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَيْ: فَالْجَأْ إِلَى اللهِ وَتَوَجَّهْ إِلَيْهِ; لِيُعِيذَكَ مِنْ شَرِّ هَذَا النَّزْغِ، فَلَا يَحْمِلَنَّكَ عَلَى مَا يُزْعِجُكَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، الْجَأْ إِلَى اللهِ بِقَلْبِكَ، وَعَبِّرْ عَنْ ذَلِكَ بِلِسَانِكَ، فَقُلْ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَا تَقُولُ، عَلِيمٌ بِمَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، فَهُوَ يَصْرِفُ عَنْكَ تَأْثِيرَ نَزْغِهِ بِتَزْيِينِ الشَّرِّ. وَمِنَ الْمُجَرَّبِ أَنَّ الِالْتِجَاءَ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ، يَصْرِفُ عَنِ الْقَلْبِ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute