للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَاكِنُ بُؤَرَ فَسَادٍ، وَكَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْأَدَبِ وَالْعِبْرَةِ، وَتَمْرِينِ الْعَوَامِّ عَلَى اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَقْرُبُ مِنَ الْفَصِيحَةِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَكُنْ يَرَى النَّاسُ فِيهَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الزِّيِّ أَكْثَرَ مِمَّا يُرَى فِي الْأَسْوَاقِ وَالشَّوَارِعِ، فَأَصْبَحَتْ كَالْخَمْرِ، إِثْمُهَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهَا.

قَدْ يَقُولُ مَنْ يَظُنُّونَ أَنَّ يُوسُفَ الصِّدِّيقَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِالْفَاحِشَةِ: إِنَّكَ قَدْ فَضَّلْتَ نَفْسَكَ عَلَيْهِ بِزَعْمِكَ أَنَّكَ لَمْ تَهُمَّ وَهُوَ قَدْ هَمَّ، وَأَقُولُ: إِنَّهُ اخْتَلَفَتِ الْحَالُ وَالدَّاعِيَةُ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَهُمَّ بِالْفَاحِشَةِ، وَإِنَّمَا هَمَّتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَهَمَّ هُوَ بِالِانْتِقَامِ، وَهُوَ بَطْشُهَا بِهِ بِالْقَتْلِ أَوِ الضَّرْبِ، وَدِفَاعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ، وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ، وَشَوَاهِدُهُ تَقَعُ دَائِمًا، وَالْعِبَارَةُ تَدُلُّ عَلَيْهِ دُونَ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ هَمَّ بِالشَّخْصِ فِي مَقَامِ الْخِلَافِ وَالْمُغَاضَبَةِ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ الْهَمُّ بِالضَّرْبِ أَوْ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ مِنَ الْإِيذَاءِ، وَلَا يُقَالُ إِنَّ الْمَرْأَةَ هَمَّتْ بِالرَّجُلِ بِالْمَعْنَى الْآخَرِ ; لِأَنَّ الْهَمَّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَلِ دُونَ الشَّخْصِ، وَهِيَ فِي الْمُبَاشَرَةِ مُوَاتِيَةٌ لَا عَمَلَ لَهَا، وَمَا اسْتَبَقَا الْبَابَ إِلَّا وَهُوَ فَارٌّ مِنْ ثَوْرَةِ غَضَبِهَا، وَهِيَ مُوَاثِبَةٌ لَهُ تُرِيدُ الْبَطْشَ بِهِ لِإِهَانَتِهِ إِيَّاهَا بِمُخَالَفَتِهَا وَهُوَ غُلَامُهَا، بَعْدَ أَنْ أَذَلَّتْ نَفْسَهَا بِبَذْلِهَا لَهُ. وَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ (١٢: ٢٤) إِلَّا عِصْمَتُهُ مِنَ الْبَطْشِ بِهَا دِفَاعًا عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ السُّوءُ، وَعِصْمَتُهُ مِمَّا دَعَتْهُ إِلَيْهِ وَهُوَ الْفَحْشَاءُ، وَلَوْلَا الرِّوَايَاتُ الْإِسْرَائِيلِيَّةُ فِي الْقِصَّةِ لَمَا خَطَرَ بِبَالِ الْمُفَسِّرِينَ الرَّاسِخِينَ فِي ذَوْقِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ غَيْرُ

هَذَا الْمَعْنَى، وَكَمْ لَفَتَتْهُمْ تِلْكَ الرِّوَايَاتُ عَمَّا هُوَ أَوْضَحُ مِنْهَا، فَتَأَوَّلُوا وَتَكَلَّفُوا; لِتَصْحِيحِ حَمْلِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا؟ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ.

الشَّيْطَانُ يُزَيِّنُ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مَا هُوَ مُسْتَعِدٌّ لَهُ وَقَرِيبٌ مِنْ أَخْلَاقِهِ وَآرَائِهِ الَّتِي تَرَبَّى عَلَيْهَا، وَمُنَاسِبٌ لِحَالِهِ وَشُعُورِهِ الَّذِي يَكُونُ غَالِبًا عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ فِي حَالِ نُعَاسٍ أَوْ فُتُورٍ زَيَّنَ لَهُ النَّوْمَ وَتَرْكَ الصَّلَاةِ إِلَى وَقْتِ الْيَقَظَةِ وَالنَّشَاطِ; لِأَجْلِ إِقَامَتِهَا كَمَا يَرْضَى اللهُ تَعَالَى! ! فَإِذَا خَالَفَهُ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ زَيَّنَ لَهُ بِوَسْوَسَتِهِ الْعَجَلَةَ وَالِاخْتِصَارَ، وَقِرَاءَةَ السُّوَرِ الْقِصَارِ، أَوْ قِرَاءَةَ السُّورَةِ مِنْ مُتَوَسِّطِ الْمُفَصَّلِ فِي رَكْعَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِذَا وَجَدَ مِنْهُ جِدًّا وَنَشَاطًا فِيهَا فَقَدْ يُزَيِّنُ لَهُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّطْوِيلِ; لِيُسْرِعَ إِلَيْهِ الْمَلَلُ، وَ " أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " كَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ. وَإِذَا كَانَتْ تَرْبِيَتُهُ الدِّينِيَّةُ مُنَفِّرَةً مِنَ الْكَبَائِرِ، أَغْرَاهُ بِمُقَدِّمَاتِهَا وَوَسَائِلِهَا مِنَ الصَّغَائِرِ، وَرُبَّمَا أَفْتَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (٤: ٣١) وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا أَنْ يَحْتَقِرَ الْإِنْسَانُ الصَّغَائِرَ وَيَتَعَمَّدَهَا وَيُوَاظِبَ عَلَيْهَا كَالْمُسْتَحِلِّ لَهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنَ التَّدَرُّجِ مِنْهَا إِلَى الْكَبَائِرِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّمَمُ، وَهُوَ مِمَّا يُلِمُّ بِهِ الْمَرْءُ إِذَا مَا عَرَضَ لَهُ، وَلَا يَتَعَمَّقُ فِيهِ وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهِ، بَلْ يَلُومُ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَتُوبُ مِنْهُ، (وَقَدْ بَيَّنْتُ هَذَا الْمَعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>