للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَصْحَابِهِ، وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ حَتَّى الْيَوْمَ فِي أَنَّهَا أَحَدُ أَسْبَابِ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ بِاسْتِجَابَةِ اللهِ لَهُ لَمَّا وَجَدَ أَبُو بَكْرٍ فِي نَفْسِهِ الْقُوَّةَ وَالطُّمَأْنِينَةَ، فَعِلْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَبِّهِ وَبِوَقْتِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُ أَقْوَى وَأَعْلَى مِنْ أَنْ يَسْتَنْبِطَهُ اسْتِنْبَاطًا مِنْ حَالِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَئِذٍ فِي مَقَامِ الْخَوْفِ فَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ مَعَهُ سَبَبَهُ وَلَا كَوْنَهُ لَا يُنَافِي كَمَالَ تَوَكُّلِهِ عَلَى رَبِّهِ، وَكَوْنَهُ فِيهِ أَعْلَى وَأَكْمَلَ مِنْ صَاحِبِهِ بِدَرَجَاتٍ لَا يَعْلُوهَا شَيْءٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ بِالتَّفْصِيلِ فِي تَفْسِيرِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٣: ١٦٠) وَهِيَ فِي سِيَاقِ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَنُعِيدُ الْبَحْثَ مَعَ زِيَادَةِ فَائِدَةٍ فَنَقُولُ: إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى كُلَّ مَقَامٍ حَقَّهُ بِحَسَبِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ فِيهَا، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْخُرُوجِ إِلَى الْهِجْرَةِ قَدْ عَمِلَ مَعَ صَاحِبِهِ كُلَّ مَا أَمْكَنَهُمَا مِنَ الْأَسْبَابِ لَهَا، وَهُوَ إِعْدَادُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَتَيْنِ وَالدَّلِيلِ وَالِاسْتِخْفَاءُ فِي الْغَارِ، لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمَا إِلَّا التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَالثِّقَةُ بِمَعُونَتِهِ وَتَخْذِيلِ أَعْدَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَمَالِ تَوَكُّلِهِ آمِنًا مُطْمَئِنًّا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مِنَ السَّكِينَةِ، وَأَيَّدَهُ بِهِ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْتَقِ إِلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ، فَكَانَ خَائِفًا حَزِينًا مُحْتَاجًا إِلَى تَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ.

وَأَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ فَكَانَ الْمَقَامُ فِيهِ مَقَامَ الْخَوْفِ لَا مَقَامَ التَّوَكُّلِ الْمَحْضِ، وَذَلِكَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الشَّرْعِيَّ بِالِاسْتِسْلَامِ لِعِنَايَةِ الرَّبِّ تَعَالَى وَحْدَهُ إِنَّمَا يَصِحُّ فِي كُلِّ حَالٍ بَعْدَ اتِّخَاذِ الْأَسْبَابِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ شَرْعِ اللهِ وَمِنْ سُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ

تَعَالَى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (٣: ١٥٩) مِنْ ذَلِكَ السِّيَاقِ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْقَطْعِ أَنَّ أَسْبَابَ النَّصْرِ وَالْغَلَبِ فِي الْحَرْبِ لَمْ تَكُنْ تَامَّةً عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَادِّيَّةِ كَالْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالْغِذَاءِ وَالْعَتَادِ وَالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ، بَلْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ إِلَّا شَيْئًا ضَعِيفًا، وَلَا مِنَ الْجِهَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ كَرَاهَةِ بَعْضِهِمْ لِلْقِتَالِ وَجِدَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ. وَلِهَذَا خَشِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصِيبَ أَصْحَابَهُ تَهْلُكَةٌ عَلَى قَتْلِهِمْ، لِتَقْصِيرِهِمْ فِي بَعْضِ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فَوْقَ التَّقْصِيرِ غَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ فِي الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ، فَكَانَ يَدْعُو بِأَلَّا يُؤَاخِذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَقْصِيرِ بَعْضِهِمْ فِي إِقَامَةِ سُنَنِهِ عِقَابًا لَهُمْ، كَمَا عَاقَبَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ ذَلِكَ الْعِقَابَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ (٣: ١٦٥) .

وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ كُلَّ مَا يَعْلَمُهُ الرَّسُولُ صَلَّى الله عَلَيْهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>