لَوْ " مِنْ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِيهِمْ فَهُوَ لَا يُنْتِجُ إِلَّا بَاطِلًا، وَعَفَا اللهُ عَمَّنْ صَوَّرُوا هَذَا الْإِشْكَالَ الْوَهْمِيَّ بِالِاصْطِلَاحِ الْمَنْطِقِيِّ الْفَلْسَفِيِّ وَأَطَالُوا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الشَّاغِلَةِ عَنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
أَلَمْ يَكُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَذْلَقَةِ اللَّفْظِيَّةِ الصَّارِفَةِ عَنِ الْقُرْآنِ، تَوْجِيهُ قَلْبِ سَامِعِهِ لِمُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا السَّمَاعِ، وَدَرَجَةِ حَظِّهِ مِنْهُ؟ فَإِنَّ لِلسَّمَاعِ دَرَجَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَا يُطَالِبُهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِهِ: أَسْفَلُهَا أَنْ يَتَعَمَّدَ مَنْ يُتْلَى عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَلَّا يَسْمَعَهُ
مُبَارَزَةً لَهُ بِالْعَدَاوَةِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، خَوْفًا مِنْ سُلْطَانِهِ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ يَغْلِبَهُمْ عَلَيْهَا كَالَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٤١: ٢٦) وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ وَهُوَ لَا يَنْوِي أَنْ يَفْهَمَ وَيَعْلَمَ كَالْمُنَافِقِينَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمْ فِي آيَةِ الْقِتَالِ (٤٧: ١٦) وَذُكِرَتْ فِي هَذَا السِّيَاقِ - وَيَلِيهَا مَنْ يَسْتَمِعُ لِأَجْلِ الْتِمَاسِ شُبْهَةٍ لِلطَّعْنِ وَالِاعْتِرَاضِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُ الْمُعَانِدُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَمَا يَفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مُرْتَزِقَةُ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ إِذَا اسْتَمَعُوا لِلْقُرْآنِ أَوْ نَظَرُوا فِيهِ - وَيَلِيهَا أَنْ يَسْمَعَ لِيفْهَمْ، وَيَعْلَمَ ثُمَّ يَحْكُمَ لِلْكَلَامِ أَوْ عَلَيْهِ.
وَهَذِهِ الدَّرَجَاتُ كُلُّهَا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَالْمُنْصِفُ مِنْهُمُ الْفَرِيقُ الْأَخِيرُ، وَكَمْ آمَنَ مِنْهُمْ مَنْ تَأَمَّلَ وَفَهِمَ. نَظَرَ طَبِيبٌ إِفْرِنْسِيٌّ مُعَاصِرٌ فِي تَرْجَمَةِ الْقُرْآنِ فَرَأَى أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطِّبِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهُ - كَالطَّهَارَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ - مُوَافِقٌ لِأَحْدَثِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا رَأْيُ الْأَطِبَّاءِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَرَغَّبَهُ ذَلِكَ فِي تَأَمُّلِهِ كُلِّهِ فَأَسْلَمَ. وَنَظَرَ (مِسْتَر بَرَاوِن) وَهُوَ رُبَّانُ بَارِجٍ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ فِي تَرْجَمَةِ مِسْتَر سَايِلْ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ لَهُ فَاسْتَقْصَى فِيهِ الْكَلَامَ عَنِ الْبِحَارِ وَالرِّيَاحِ فَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَكْبَرِ رُبَّانِي الْمَلَّاحِينَ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ لَمْ يَرَ الْبَحْرَ قَطُّ، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ أُمِّيًّا لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا، وَلَا تَلَقَّى عَنْ أَحَدٍ دَرْسًا، (قَالَ) : فَعَلِمْتُ أَنَّ هَذَا كَانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ ; لِأَنَّهُ حَقَائِقُ لَمْ يَعْلَمْهَا مِنِ اخْتِبَارِهِ بِنَفْسِهِ، وَلَا بِتَلَقِّيهِ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُخْتَبِرِينَ، وَقَدْ أَسْلَمَ وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَأَكْثَرَهُمُ الْيَوْمَ يَسْمَعُونَ الْقَارِئَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَلَا يَسْتَمِعُونَ لَهُ، وَلَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى سَمَاعِهِ، وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ لَهُ وَيُنْصِتُونَ يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ التَّلَذُّذِ بِتَجْوِيدِهِ، وَتَوْقِيعِ التِّلَاوَةِ عَلَى قَوَاعِدِ النَّغَمَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْصِدُ بِسَمَاعِهِ التَّبَرُّكَ فَقَطْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُحْضِرُ الْحُفَّاظَ لِتِلَاوَتِهِ عِنْدَهُ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ; لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ أَكَابِرِ الْوُجَهَاءِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ التِّلَاوَةُ فِي حُجْرَةِ الْبَوَّابِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْخَدَمِ، وَإِذَا سَمِعْتَ بَعْضَ السَّامِعِينَ لِلتِّلَاوَةِ يَقُولُ: اللهُ اللهُ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ أَوْ صَوْتٍ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ إِعْجَابًا بِنَغْمَةِ التَّالِي، حَتَّى إِنَّهُمْ لَيَنْطِقُونِ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِبَعْضِ الْأَصْوَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْغِنَاءِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute