للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دُعِيتُ مَرَّةً إِلَى حَفْلَةِ عُرْسٍ فَإِذَا أَنَا بِقَارِئٍ يَتْلُو بِالنَّغَمِ وَالتَّطْرِيبِ، وَبَعْضُ

الْحَاضِرِينَ يَهْتَزُّ وَيَنْطِقُ بِتِلْكَ الْحُرُوفِ الْمُعْتَادَةِ فِي مَجَالِسِ الْغِنَاءِ، وَيَسْتَعِيدُونَ بَعْضَ الْجُمَلِ أَوِ الْآيَاتِ كَمَا يَسْتَعِيدُونَ الْمَغْنَى عَلَى سَوَاءٍ، وَكَانَ الْقَارِئُ يَتْلُو تِلْكَ الْوَصَايَا الصَّادِعَةَ مِنْ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَمَا يَتْلُوهَا مِنْ وَصْفِ الْقُرْآنِ وَهِدَايَتِهِ وَمَوَاعِظِهِ، وَتَوْبِيخِ الْمُعْرِضِينَ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (١٧: ٤١) إِلَى قَوْلِهِ: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (١٧: ٤٥، ٤٧) .

فَلَمَّا سَمِعْتُ مُكَاءَ أُولَئِكَ السُّفَهَاءِ وَأَصْوَاتَهُمُ الْمُنْكَرَةَ عِنْدَ سَمَاعِ هَذِهِ الْحِكَمِ الرَّوَائِعِ وَالْمَوَاعِظِ الصَّوَادِعِ، لَمْ أَمْلِكْ نَفْسِي أَنْ صِحْتُ فِيهِمْ صَيْحَةً مُزْعِجَةً، وَوَقَفْتُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الَّذِي كُنْتُ جَالِسًا عَلَيْهِ وَوَبَّخْتُهُمْ تَوْبِيخًا شَدِيدًا، مُبَيِّنًا لَهُمْ مَا يَجِبُ مِنَ الْأَدَبِ وَالْخُشُوعِ وَالْخَشْيَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَتَلَوْتُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٥٩: ٢١) فَسَكَنُوا وَسَكَتُوا إِلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، وَلَكِنَّهُ صَارَ يَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ يَهْتَزُّ مُتَخَشِّعًا، وَيُهَمْهِمُ مُعْتَبِرًا مُتَدَبِّرًا.

وَلِيَعْلَمِ الْقَارِئُ أَنَّ لِفَهْمِ الْكَلَامِ نَفْسِهِ دَرَجَاتٍ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ إِلَّا مَدْلُولَاتِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ إِجْمَالٍ وَإِبْهَامٍ بِحَسَبِ مَا تُفَسَّرُ بِهِ الْمُفْرَدَاتُ فِي مَعَاجِمِ اللُّغَةِ، أَوْ مَعَ الْمُرَكَّبَاتِ بِحَسَبِ قَوَاعِدِ النَّحْوِ وَالْبَيَانِ، كَكَوْنِ لَفْظَيِ الصُّمِّ وَالْبُكْمِ هُنَا مِنْ مَجَازِ الِاسْتِعَارَةِ مَثَلًا، وَهَذَا الْفَهْمُ قَاصِرٌ لَا يَتَّسِعُ عَقْلُ صَاحِبِهِ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّذَكُّرِ الْمَطْلُوبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ فَهْمُهُ تَفْصِيلِيًّا يَنْتَقِلُ مِنَ الْكُلِّيَّاتِ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ، وَيَعْدُو الْمَفْهُومَاتِ الذِّهْنِيَّةَ إِلَى الْمَاصَدَقَاتِ، وَلَكِنَّهُ يَجْعَلُهَا بِمَعْزِلٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَيَتَصَوَّرُ أَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ لِغَيْرِهِ وَفِي غَيْرِهِ، بِأَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْكَافِرِينَ أَوِ الْمُنَافِقِينَ، لَا فِي أَمْثَالِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِفًا بِمَا تَنْهَى عَنْهُ وَتَتَوَعَّدُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، فَصَاحِبُهَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ مَا أَنَّهُ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ،

وَإِنَّمَا الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا لِلسَّمَاعِ أَنْ تَسْمَعَ فَتَفْقَهَ، وَتَعْقِلَ وَتَتَدَبَّرَ فَتَعْتَبِرَ وَتَعْمَلَ، حَتَّى لَا تَقُولَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦٧: ١٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>