وَيُقَابِلُ هَذَا مِنَ الْحَيْلُولَةِ مَا حَكَى بَعْضُهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، أَنَّهُ كَانَ مُنْهَمِكًا فِي شَهَوَاتِهِ وَلَهْوِهِ، تَارِكًا لِهُدَاهُ وَطَاعَةِ رَبِّهِ، فَنَزَلَ يَوْمًا فِي زَوْرَقٍ مَعَ خِلَّانٍ لَهُ فِي نَهْرِ دِجْلَةَ لِلتَّنَزُّهِ وَمَعَهُمُ النَّبِيذُ وَالْمَعَازِفُ، فَبَيْنَا هُمْ يَعْزِفُونَ وَيَشْرَبُونَ، إِذِ الْتَقَوْا بِزَوْرَقٍ آخَرَ فِيهِ تَالٍ لِلْقُرْآنِ يُرَتِّلُ سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (٨١: ١) فَوَقَعَتْ تِلَاوَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ مَوْقِعَ التَّأْثِيرِ وَالْعِظَةِ، فَاسْتَمَعَ لَهُ وَأَنْصَتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (٨١: ١٠) امْتَلَأَ قَلْبُهُ خَشْيَةً مِنَ اللهِ، وَتَدَبُّرًا لِاطِّلَاعِهِ عَلَى صَحِيفَةِ عَمَلِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ. فَأَخَذَ الْعُودَ مِنَ الْعَازِفِ
فَكَسَرَهُ، وَأَلْقَاهُ فِي دِجْلَةَ، وَثَنَّى بِنَبْذِ قَنَانِي النَّبِيذِ وَكُئُوسِهِ فِيهَا، وَصَارَ يُرَدِّدُ الْآيَةَ، وَعَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ تَائِبًا مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، مُجْتَهِدًا فِي كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ مِنْ طَاعَةٍ.
فَتَذْكِيرُ اللهِ تَعَالَى إِيَّانَا بِهَذَا الشَّأْنِ مِنْ شُئُونِ الْإِنْسَانِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الْقَلْبِيَّةُ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَمْرُهُ إِيَّانَا بِأَنْ نَعْلَمَهَا عِلْمَ إِيقَانٍ وَإِذْعَانٍ، يُفِيدُنَا فَائِدَتَيْنِ لَا يَكْمُلُ بِدُونِهِمَا الْإِيمَانُ، وَهُمَا أَلَّا يَأْمَنَ الطَّائِعُ الْمُشَمِّرُ مِنْ مَكْرِ اللهِ فَيَغْتَرَّ بِطَاعَتِهِ وَيُعْجَبَ بِنَفْسِهِ، وَأَلَّا يَيْأَسَ الْعَاصِي وَالْمُقَصِّرُ فِي الطَّاعَةِ مِنْ رَوْحِ اللهِ، فَيَسْتَرْسِلَ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ، حَتَّى تُحِيطَ بِهِ خَطَايَاهُ. وَمَنْ لَمْ يَأْمَنْ عِقَابَ اللهِ، وَلَمْ يَيْأَسْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، يَكُونُ جَدِيرًا بِأَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ، وَيُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى خَوَاطِرِهِ، وَيُعَاقِبَ نَفْسَهُ عَلَى هَفَوَاتِهِ ; لِتَظَلَّ عَلَى صِرَاطِ الْعَدْلِ الْمُسْتَقِيمِ، مُتَجَنِّبَةً الْإِفْرَاطَ وَالتَّفْرِيطَ، وَيَتَحَرَّى أَنْ يَكُونَ دَائِمًا بَيْنَ خَوْفٍ يَحْجِزُهُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَرَجَاءٍ يَحْمِلُهُ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَيُسَاعِدُنَا عَلَى ذَلِكَ (الْأَمْرُ الثَّانِي) وَهُوَ أَنْ نَذْكُرَ حَشْرَنَا إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمُحَاسَبَتَهُ إِيَّانَا عَلَى أَعْمَالِنَا الْقَلْبِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ، وَمُجَازَاتَهُ إِيَّانَا عَلَيْهَا إِمَّا بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَإِمَّا بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَهَذَا مِنْهُ مُقْتَضَى الْفَضْلِ، وَذَلِكَ أَثَرُ الْعَدْلِ.
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا فَهِمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، مَقَامِ حِرْمَانِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ سَمَاعِ الْفِقْهِ وَالْهُدَى، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أَنْ يَعْصِيَ الْهَوَى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٤٥: ٢٣) فَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ لَيْسَ مَجْبُورًا عَلَيْهِ، وَأَنَّ اللهَ لَمْ يَحْرِمْهُ الْهُدَى بِإِعْجَازِهِ عَنْهُ، وَهُوَ يُؤْثِرُهُ وَيُفَضِّلُهُ، أَوْ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ كَارِهٌ لَهُ، فَإِنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ اتِّخَاذَهُ هَوَاهُ إِلَهَهُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ (٣٨: ٢٦) الْآيَةَ.
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ اتِّبَاعَ الْهَوَى سَبَبٌ لِلضَّلَالِ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ الْجَاثِيَةِ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ الضَّلَالَ اسْتِقْلَالًا - كَمَا يَدَّعِي بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ - بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي سُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ
إِثْبَاتُ كَوْنِ ضَلَالِهِ عَلَى عِلْمٍ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى، مُؤْثِرٌ لَهُ عَلَى الْهُدَى، وَاللهُ تَعَالَى يُسْنِدُ الْأُمُورَ إِلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute