للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَسْبَابِهَا تَارَةً، وَإِلَيْهِ تَعَالَى تَارَةً، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَوَاضِعُ سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ. وَمِنَ الْأَسْبَابِ مَا جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمَخْلُوقَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ عَلَى عِلْمٍ، وَمَا جَعَلَهُ بِأَسْبَابٍ لَا يُعْلَمُ لِلْخَلْقِ اخْتِيَارٌ فِيهَا وَلَا عِلْمٌ، وَكُلٌّ مِنَ الْقِسْمَيْنِ يُسْنَدُ إِلَى سَبَبِهِ تَارَةً، وَإِلَى رَبِّ الْأَسْبَابِ تَارَةً، وَالْجِهَةُ مُخْتَلِفَةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَيُخْتَارُ هَذَا أَوْ ذَاكَ فِي الْبَيَانِ بِحَسَبِ سِيَاقِ الْكَلَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحَرْثِ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٥٦: ٦٣، ٦٤) فَهَلْ يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّ الْفَلَّاحَ لَا فِعْلَ لَهُ، وَلَا اخْتِيَارَ فِي زَرْعِهِ، وَأَنَّ اللهَ يَخْلُقُهُ لَهُ بِدُونِ إِرَادَتِهِ وَلَا فِعْلِهِ، أَوْ أَنَّ فِعْلَهُ وَتَرْكَهُ فِي أَرْضِهِ سَوَاءٌ، وَتَلْقِيحَهُ لِنَخْلِهِ وَعَدَمَهُ سِيَّانِ؟ ! .

وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي الْبَشَرِ أَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ هَوَاهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَى ذَلِكَ وَيُدْمِنُهُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ، تَضْعُفُ إِرَادَتُهُ فِي هَوَاهُ حَتَّى تَذُوبَ وَتَفْنَى فِيهِ، فَلَا تَعُودُ تُؤَثِّرُ فِيهِ الْمَوَاعِظُ الْقَوْلِيَّةُ، وَلَا الْعِبَرُ الْمُبَصِّرَةُ وَلَا الْمَعْقُولَةُ، وَهَذِهِ الْحَالَةُ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْخَتْمِ وَالرَّيْنِ وَالطَّبْعِ عَلَى الْقَلْبِ، وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى وَالْبَكَمِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَسَبَقَ مِثْلُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِهَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ ضَلَّ بِهَا الْجَبْرِيَّةُ غَافِلِينَ عَنْ كَوْنِهَا عَاقِبَةً طَبِيعِيَّةً لِإِدْمَانِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، كَالْخِمَارِ الَّذِي يَعْتَرِي مُدْمِنَ الْخَمْرِ، فَيَشْعُرُ بِفُتُورٍ وَأَلَمٍ عَصَبِيٍّ لَا يَسْكُنُ إِلَّا بِالْعَوْدَةِ إِلَى الشُّرْبِ، عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَّمَتْنَا عَدَمَ الْيَأْسِ.

وَمِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ فِي تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ، وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ فِي قُدْرَتِهِ وَمَشَاعِرِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٦: ١١٠) فَيُرَاجَعُ مَعْنَاهَا فِي آخِرِ تَفْسِيرِ الْجُزْءِ السَّابِعِ، وَقَالَ الرَّاغِبُ: تَقْلِيبُ اللهِ الْقُلُوبَ صَرْفُهَا مِنْ رَأْيٍ إِلَى رَأْيٍ. وَذَكَرَ آيَةَ الْأَنْعَامِ هَذِهِ.

وَمِنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَأْثُورِ فِي السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا " وَيَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الْكُفْرِ، وَبَيْنَ الْكَافِرِ وَبَيْنَ الْهُدَى " وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ

كَمَا قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ وَلَهُ وَلِغَيْرِهِ آثَارٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ إِلَّا أَبَا دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ يَمِينُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ عَنْهُ " أَكْبَرُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ: " لَا وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وَشُرَّاحِ الْأَحَادِيثِ أَغْلَاطٌ لَفْظِيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ فِي تَفْسِيرِ لَفْظِ الْقَلْبِ، وَفِي تَقْلِيبِ اللهِ تَعَالَى لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ اللَّفْظِيُّ مِنْ قَبْلُ، وَمَعْنَى تَقْلِيبِهِ آنِفًا، وَقَوْلُهُمْ إِنَّ اللهَ خَالِقُ الْقُلُوبِ وَمُقَلِّبُهَا حَقٌّ، وَكَذَا أَفْعَالُ الْعِبَادِ كُلُّهَا، وَلَيْسَ بِحَقٍّ مَا عَبَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يَمْنَعُ الْكَافِرَ بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ عَنِ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ مُبَاشَرَةً، وَيَخْلُقُ فِي قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ الْكُفْرَ اعْتِقَادًا وَنُطْقًا خَلْقًا أُنُفًا لَا فِعْلَ لَهُ فِيهِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا وَمَا فِي مَعْنَاهَا يُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ الْأَسْبَابَ الِاخْتِيَارِيَّةَ، وَالْقَائِلُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>