للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلْيَنْظُرِ الْمُعْتَبِرُ كَيْفَ عَاقَبَ أَبُو لُبَابَةَ نَفْسَهُ تَوْبَةً إِلَى اللهِ تَعَالَى " شَدَّ نَفْسَهُ عَلَى سَارِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: وَاللهِ لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ - فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيبَ عَلَيْكَ. فَقَالَ: وَاللهِ لَا أَحُلُّ نَفْسِي، حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحُلُّنِي، فَجَاءَهُ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ " وَغَزْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانَتْ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا سُورَةُ الْأَنْفَالِ بِسِنِينَ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي أَبِي لُبَابَةَ أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ فَعْلَتَهُ - وَهَذَا التَّعْبِيرُ يَكْثُرُ مِثْلُهُ عَنْهُمْ فِيمَا يُسَمُّونَهُ أَسْبَابَ النُّزُولِ، كَمَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ وَغَيْرُهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ نُزُولِ السُّورَةِ فَأُلْحِقَتْ بِهَا بِأَمْرِ اللهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وَمَهْمَا يَكُنْ سَبَبُ النُّزُولِ فَالْآيَةُ عَامَّةٌ تَشْتَمِلُ كُلَّ خِيَانَةٍ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ خِيَانَةَ اللهِ بِتَرْكِ فَرَائِضِهِ وَارْتِكَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَالْأَمَانَةَ بِكُلِّ مَا ائْتَمَنَ اللهُ عَلَيْهِ الْعِبَادَ بِأَلَّا يُنْقِصَهَا. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.

وَالْخِيَانَةُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْإِخْلَافِ وَالْخَيْبَةِ بِنَقْضِ مَا كَانَ يُرْجَى وَيُؤْمَلُ مِنَ الْخَائِنِ، أَوْ نَقْصِ شَيْءٍ مِنْهُ يُنَافِي حُصُولَهُ وَتَحَقُّقَهُ. وَمِنْهُ: خَانَهُ سَيْفُهُ، إِذَا نَبَا عَنِ الضَّرِيبَةِ. وَخَانَتْهُ رِجْلَاهُ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمَشْيِ، وَخَانَ الرِّشَاءُ الدَّلْوَ إِذَا انْقَطَعَ. وَمِنْ مَعْنَى النَّقْصِ أَوْ الِانْتِقَاصِ فِي الْمَادَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ

أَنْفُسَكُمْ (٢: ١٨٧) أَيْ تَنْقُصُونَهَا بَعْضَ مَا أُحِلَّ لَهَا مِنَ اللَّذَّاتِ، وَمِثْلُهُ التَّخَوُّنُ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْأَسَاسِ: وَتَخَوَّنَ فُلَانٌ حَقِّي إِذَا تَنَقَّصَهُ كَأَنَّهُ خَانَهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَكُلُّ مَا غَيَّرَكَ عَنْ حَالِكَ فَقَدْ تَخَوَّنَكَ. قَالَ لَبِيدٌ.

تَخَوَّنَهَا نُزُولِي وَارْتِحَالِي

اهـ. وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ مِنَ الْكَشَّافِ وَتَبِعَهُ غَيْرُهُ: مَعْنَى الْخَوْنِ النَّقْصُ، كَمَا أَنَّ مَعْنَى الْوَفَاءِ التَّمَامُ، وَمِنْهُ تَخَوَّنَهُ إِذَا تَنَقَّصَهُ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي ضِدِّ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ; لِأَنَّكَ إِذَا خُنْتَ الرَّجُلَ فِي شَيْءٍ فَقَدْ أَدْخَلْتَ عَلَيْهِ النُّقْصَانَ فِيهِ اهـ. وَمَا قُلْنَا أَوَّلًا أَعَمُّ مِنْ هَذَا وَأَشْمَلُ لِمَا وَرَدَ مِنَ الِاسْتِعْمَالِ فِي كَلَامِ اللهِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْخِيَانَةُ وَالنِّفَاقُ وَاحِدٌ إِلَّا أَنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَالنِّفَاقُ يُقَالُ اعْتِبَارًا بِالدِّينِ، ثُمَّ يَتَدَاخَلَانِ إِلَى آخِرِ مَا قَالَهُ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ مَا قُلْنَاهُ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ حَدًّا تَامًّا.

وَالْمَعْنَى يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ تَعَالَى بِتَعْطِيلِ فَرَائِضِهِ أَوْ تَعَدِّي حُدُودِهِ، وَانْتِهَاكِ مَحَارِمِهِ الَّتِي بَيَّنَهَا لَكُمْ فِي كِتَابِهِ (وَالرَّسُولَ) بِالرَّغْبَةِ عَنْ بَيَانِهِ لِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى إِلَى أَهْوَائِكُمْ، أَوْ آرَاءِ مَشَايِخِكُمْ أَوْ آبَائِكُمْ، أَوِ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ إِلَى أَوَامِرِ أُمَرَائِكُمْ، وَتَرْكِ سُنَّتِهِ إِلَى سُنَّةِ أَوْلِيَائِكُمْ، بِنَاءً عَلَى زَعْمِكُمْ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمُرَادِ اللهِ وَرَسُولِهِ مِنْكُمْ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ أَيْ

<<  <  ج: ص:  >  >>