للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَاءِ أُمُورِكُمْ مِنَ الشُّئُونِ السِّيَاسِيَّةِ وَلَا سِيَّمَا الْحَرْبِيَّةَ، وَفِيمَا بَيْنَكُمْ بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ وَغَيْرِهَا حَتَّى الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ، فَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَجَالِسُ بِالْأَمَانَةِ رَوَاهُ الْخَطِيبُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَسَّنُوهُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ بِزِيَادَةِ " إِلَّا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكَ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ، أَوِ اقْتِطَاعَ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ " أَيْضًا " إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِحَدِيثٍ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهُوَ أَمَانَةٌ " وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى عَنْ أَنَسٍ، وَأَشَارَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إِلَى صِحَّتِهِ. فَإِفْشَاءُ السِّرِّ خِيَانَةٌ مُحَرَّمَةٌ، وَيَكْفِي فِي الْعِلْمِ بِكَوْنِهِ سِرًّا الْقَرِينَةُ الْقَوْلِيَّةُ كَقَوْلِ مُحَدِّثِكَ: هَلْ يَسْمَعُنَا أَحَدٌ؟ أَوْ لِلْفِعْلِيَّةِ كَالِالْتِفَاتِ لِرُؤْيَةِ مَنْ عَسَاهُ يَجِيءُ. وَآكَدُ أَمَانَاتِ السِّرِّ وَأَحَقُّهَا بِالْحِفْظِ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ. الْخِيَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْأَمَانَةُ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: " قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَالَ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ، وَلَا دِينَ

لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ " رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ زَادَ مُسْلِمٌ " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ " وَقَدْ وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ إِطْلَاقُ الْأَمَانَةِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَدِيعَةِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْحَصْرَ، بَلْ كُلُّ مَا يَجِبُ حِفْظُهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ حَقٍّ مَادِّيٍّ أَوْ مَعْنَوِيٍّ يَجِبُ عَلَيْكَ أَدَاؤُهُ إِلَى أَهْلِهِ فَهُوَ أَمَانَةٌ. قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ (٢: ٢٨٣) وَقَالَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا (٤: ٥٨) .

وَقَدْ أَوْرَدْنَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ النِّسَاءِ هَذِهِ مَبَاحِثَ نَفِيسَةً فِي الْأَمَانَاتِ وَالْعَدْلِ، مِنْهَا (الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ) فِي أَنْوَاعِ الْأَمَانَةِ (وَالْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ) فِي حِكْمَةِ تَأْكِيدِ الْأَمْرِ بِالْأَمَانَةِ. وَأَوْرَدْنَا فِي هَذِهِ مَا قَالَهُ حَكِيمُ الشَّرْقِ السَّيِّدُ جَمَالُ الدِّينِ الْأَفْغَانِيُّ فِي بَيَانِ كَوْنِ الْأَمَانَةِ مِنَ الصِّفَاتِ الدِّينِيَّةِ، الَّتِي قَامَ عَلَيْهَا بِنَاءُ الْمَدَنِيَّةِ وَبِهَا حِفْظُ الْعُمْرَانِ، وَإِصْلَاحُ حَالِ الْأُمَّةِ، وَلَا بَقَاءَ لِدَوْلَةٍ بِدُونِهَا; لِأَنَّ عَلَيْهَا مَدَارَ الثِّقَةِ فِي جَمِيعِ الْمُعَامَلَاتِ. وَنَاهِيكَ بِمَا عَظَّمَ اللهُ مِنْ أَمْرِ الْأَمَانَةِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٣٣: ٧٢) .

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَمَعْنَاهُ: وَالْحَالُ أَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ مَفَاسِدَ الْخِيَانَةِ، وَتَحْرِيمَ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهَا، وَسُوءَ عَاقِبَةِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَوْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَا فَصَّلْتُمُوهُ خِيَانَةٌ لِظُهُورِهِ، وَأَمَّا مَا خَفِيَ عَنْكُمْ حُكْمُهُ فَالْجَهْلُ لَهُ عُذْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَوْ مِمَّا يُعْلَمُ

<<  <  ج: ص:  >  >>