وَأَمَّا قِصَّةُ حُنَيْنٍ فَقَدْ عَوَّضَ الْأَنْصَارَ - لَمَّا قَالُوا: يُعْطِي الْغَنَائِمَ قُرَيْشًا وَيَتْرُكُنَا وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ - نَفْسَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " كَمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. وَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ بَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ اهـ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَأَنَّهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْتَقَ أَهْلَهَا فَقَالَ: " أَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ " وَأَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تُفْتَحُ عَنْوَةً لَا يَجِبُ قَسْمُهَا كَالْغَنَائِمِ الْمَنْقُولَةِ، بَلْ يَعْمَلُ الْإِمَامُ فِيهَا بِمَا يَرَى فِيهِ الْمَصْلَحَةَ، دَعْ مَا مَيَّزَ اللهُ بِهِ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ بِبَيْتِهِ وَشَعَائِرِ دِينِهِ حَتَّى قِيلَ: إِنَّهَا لَا تُمَلَّكُ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَعَارَضٌ يَتَفَصَّى مِنْهُ بِالنَّسْخِ، فَالْأُولَى نَاطِقَةٌ بِأَنَّ الْأَنْفَالَ لِلَّهِ يَحْكُمُ فِيهَا بِحُكْمِهِ، وَلِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُنَفِّذُ حُكْمَهُ تَعَالَى بِالْبَيَانِ وَالْعَمَلِ وَالِاجْتِهَادِ. وَالثَّانِيَةُ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ أَخْذِ خُمُسِ الْغَنَائِمِ، وَتَقْسِيمِهِ عَلَى مَنْ ذُكِرَ فِيهَا. فَهِيَ إِذًا مُبَيِّنَةٌ لِإِجْمَالِ الْأُولَى، وَمُفَسِّرَةٌ لَهَا لَا نَاسِخَةٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنَّ كُلَّ مَا غَنِمْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُحَارِبِينَ، فَالْحَقُّ الْأَوَّلُ الْوَاجِبُ فِيهِ أَنَّ خُمُسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ فِيمَا يُرْضِيهِ مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ الْعَامَّةِ: كَالدَّعْوَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعِمَارَةِ الْكَعْبَةِ وَكِسْوَتِهَا، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِهِ تَعَالَى، وَلِلرَّسُولِ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ وَنِسَائِهِ، وَكَانَ يُمَوِّنُهُنَّ إِلَى سَنَةٍ، وَلِذِي الْقُرْبَى أَيْ أَقْرَبِ أَهْلِهِ وَعَشِيرَتِهِ إِلَيْهِ نَسَبًا وَوَلَاءً وَنُصْرَةً، وَهُمُ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ كَمَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ تَكْرِيمًا لَهُ وَلَهُمْ بِالتَّبَعِ لَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ رِزْقُهُمْ مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَمْلٍ مِنْهُمْ. وَقَدْ خَصَّ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَلِكَ بِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أَخِيهِ الْمُطَّلِبِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ بَنِي أَخِيهِ الشَّقِيقِ بَلِ التَّوْءَمِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَأَخِيهِ
لِأَبِيهِ نَوْفَلٍ، وَكُلُّهُمْ أَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَيَلِي ذَوِي الْقُرْبَى الْمُحْتَاجُونَ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ وَابْنُ السَّبِيلِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - وَهُوَ مَنْ بَنِي نَوْفَلٍ - قَالَ مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ - إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا وَنَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: " إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ " هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي الْخُمُسِ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ إِسْحَاقَ " فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَكَ اللهُ مِنْهُمْ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا؟ " فَقَالَ: إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهْمُ شَيْءٌ وَاحِدٌ " وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ اهـ. وَمِنْ هَذَا الِاتِّحَادِ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْوَلَاءِ وَالنُّصْرَةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا كَتَبَتِ الصَّحِيفَةَ، وَأَخْرَجَتْ بَنِي هَاشِمٍ مِنْ مَكَّةَ، وَحَصَرَتْهُمْ فِي الشِّعْبِ لِحِمَايَتِهِمْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute