للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

يَقُولُ اللهُ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (٢١: ١٠٥) وَيَقُولُ: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (٦٣: ٨) وَقَالَ: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٣٠: ٤٧) وَقَالَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (٤٨: ٢٨) هَذَا مَا وَعَدَ اللهُ فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ تَأْوِيلًا، وَلَا يَنَالُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِالتَّأْوِيلِ، إِلَّا مَنْ ضَلَّ عَنِ السَّبِيلِ، وَرَامَ تَحْرِيفَ الْكَلِمِ عَنْ مَوَاضِعِهِ. هَذَا عَهْدُهُ إِلَى تِلْكَ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ، وَعَدَهَا بِالنَّصْرِ وَالْعِزَّةِ وَعُلُوِّ الْكَلِمَةِ، وَمَهَّدَ لَهَا سَبِيلَ مَا وَعَدَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَا جَعَلَ اللهُ لِمَجْدِهَا أَمَدًا، وَلَا لِعِزَّتِهَا حَدًّا.

هَذِهِ أُمَّةٌ أَنْشَأَهَا اللهُ عَنْ قِلَّةٍ، وَرَفَعَ شَأْنَهَا إِلَى ذِرْوَةِ الْعُلَى، حَتَّى ثَبَّتَ أَقْدَامَهَا عَلَى قُنَنِ الشَّامِخَاتِ، وَدُكَّتْ لِعَظَمَتِهَا عَوَالِي الرَّاسِيَاتِ، وَانْشَقَّتْ لِهَيْبَتِهَا مَرَائِرُ الضَّارِيَاتِ، وَذَابَتْ لِلرُّعْبِ مِنْهَا أَعْشَارُ الْقُلُوبِ، هَالَ ظُهُورُهَا الْهَائِلُ كُلَّ نَفْسٍ، وَتَحَيَّرَ فِي سَبَبِهِ كُلُّ عَقْلٍ، وَاهْتَدَى إِلَى السَّبَبِ أَهْلُ الْحَقِّ فَقَالُوا: قَوْمٌ كَانُوا مَعَ اللهِ فَكَانَ اللهُ مَعَهُمْ، جَمَاعَةٌ قَامُوا بِنَصْرِ اللهِ، وَاسْتَرْشَدُوا بِسُنَّتِهِ فَأَمَدَّهُمْ بِنَصْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. هَذِهِ أُمَّةٌ كَانَتْ فِي نَشْأَتِهَا فَاقِدَةَ الذَّخَائِرِ، مَعُوِزَةً مِنَ الْأَسْلِحَةِ وَعُدَدِ الْقِتَالِ، فَاخْتَرَقَتْ صُفُوفَ الْأُمَمِ، وَاخْتَطَّتْ دِيَارَهَا، لَا دَفَعَتْهَا أَبْرَاجُ الْمَجُوسِ وَخَنَادِقُهُمْ، وَلَا صَدَّتْهَا قِلَاعُ الرُّومَانِ وَمَعَاقِلُهُمْ، وَلَا عَاقَهَا صُعُوبَةُ الْمَسَالِكِ، وَلَا أَثَّرَ فِي هِمَّتِهَا اخْتِلَافُ الْأَهْوِيَةِ، وَلَا فَعَلَ فِي نُفُوسِهَا غَزَارَةُ الثَّرْوَةِ عِنْدَ مَنْ سِوَاهَا، وَلَا رَاعَهَا جَلَالَةُ مُلُوكِهِمْ، وَقِدَمُ بُيُوتِهِمْ، وَلَا تَنَوُّعُ صَنَائِعِهِمْ، وَلَا سِعَةُ دَائِرَةِ فُنُونِهِمْ، وَلَا عَاقَ سَيْرَهَا أَحْكَامُ الْقَوَانِينِ، وَلَا تَنْظِيمُ الشَّرَائِعِ، وَلَا تَقَلُّبُ غَيْرِهَا مِنَ الْأُمَمِ فِي فُنُونِ السِّيَاسَةِ. كَانَتْ تَطْرُقُ دِيَارَ الْقَوْمِ فَيُحَقِّرُونَ أَمْرَهَا، وَيَسْتَهِينُونَ بِهَا،

وَمَا كَانَ يَخْطُرُ بِبَالِ أَحَدٍ أَنَّ هَذِهِ الشِّرْذِمَةَ الْقَلِيلَةَ تُزَعْزِعُ أَرْكَانَ تِلْكَ الدُّوَلِ الْعَظِيمَةِ، وَتَمْحُو أَسْمَاءَهَا مِنْ لَوْحِ الْمَجْدِ. وَمَا كَانَ يَخْتَلِجُ بِصَدْرٍ أَنَّ هَذِهِ الْعِصَابَةَ الصَّغِيرَةَ تَقْهَرُ تِلْكَ الْأُمَمَ الْكَبِيرَةَ، وَتُمَكِّنُ فِي نُفُوسِهَا عَقَائِدَ دِينِهَا، وَتُخْضِعُهَا لِأَوَامِرِهَا وَعَادَاتِهَا وَشَرَائِعِهَا، لَكِنْ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ، وَنَالَتْ تِلْكَ الْأُمَّةُ الْمَرْحُومَةُ عَلَى ضَعْفِهَا مَا لَمْ تَنَلْهُ أُمَّةٌ سِوَاهَا. نَعِمَ قَوْمٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ مَجْدًا فِي الدُّنْيَا، وَسَعَادَةً فِي الْآخِرَةِ.

هَذِهِ الْأُمَّةُ يَبْلُغُ عَدَدُهَا الْيَوْمَ زُهَاءَ مِائَتَيْ مِلْيُونٍ مِنَ النُّفُوسِ وَأَرَاضِيهَا آخِذَةٌ مِنَ الْمُحِيطِ الْإِتْلَانْتِيكِيِّ إِلَى أَحْشَاءِ بِلَادِ الصِّينِ - تُرْبَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَنَابِتُ خِصْبَةٌ، وَدِيَارٌ رَحْبَةٌ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى بِلَادَهَا مَنْهُوبَةً، وَأَمْوَالَهَا مَسْلُوبَةً، تَتَغَلَّبُ الْأَجَانِبُ عَلَى شُعُوبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ شَعْبًا شَعْبًا، وَيَتَقَاسَمُونَ أَرَاضِيَهَا قِطْعَةً بَعْدَ قِطْعَةٍ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا كَلِمَةٌ تُسْمَعُ، وَلَا أَمْرٌ يُطَاعُ،

<<  <  ج: ص:  >  >>