للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حَتَّى إِنَّ الْبَاقِينَ مِنْ مُلُوكِهَا يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِي مُلِمَّةٍ، وَيُمْسُونَ فِي كُرْبَةٍ مُدْلَهِمَّةٍ، ضَاقَتْ أَوْقَاتُهُمْ عَنْ سِعَةِ الْكَوَارِثِ الَّتِي تُلِمُّ بِهِمْ، وَصَارَ الْخَوْفُ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ مِنَ الرَّجَاءِ لَهُمْ.

هَذِهِ هِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي كَانَ الدُّوَلُ الْعِظَامِ يُؤَدِّينَ لَهَا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُنَّ صَاغِرَاتٌ، اسْتِبْقَاءً لِحَيَاتِهِنَّ، وَمُلُوكُهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَرَوْنَ بَقَاءَهُمْ فِي التَّزَلُّفِ إِلَى تِلْكَ الدُّوَلِ الْأَجْنَبِيَّةِ، يَا لَلْمُصِيبَةِ وَيَا لَلرَّزِيَّةِ! ! .

أَلَيْسَ هَذَا بِخَطْبٍ جَلَلٍ، أَلَيْسَ هَذَا بِبَلَاءٍ نَزَلَ، مَا سَبَبُ هَذَا الْهُبُوطِ، وَمَا عِلَّةُ هَذَا الِانْحِطَاطِ؟ هَلْ نُسِيءَ الظَّنُّ بِالْعُهُودِ الْإِلَهِيَّةِ؟ مَعَاذَ اللهِ! هَلْ نَسْتَيْئِسُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، وَنَظُنُّ أَنْ قَدْ كَذَبَ عَلَيْنَا؟ نَعُوذُ بِاللهِ! هَلْ نَرْتَابُ فِي وَعْدِهِ بِنَصْرِنَا بَعْدَمَا أَكَّدَهُ لَنَا؟ حَاشَاهُ سُبْحَانَهُ! لَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَنْ يَكُونَ، فَعَلَيْنَا

أَنْ نَنْظُرَ لِأَنْفُسِنَا، وَلَا لَوْمَ لَنَا إِلَّا عَلَيْهَا، إِنَّ اللهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ قَدْ وَضَعَ لِسَيْرِ الْأُمَمِ سُنَنًا مُتَّبَعَةً ثُمَّ قَالَ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا (٣٣: ٦٢) .

أَرْشَدَنَا سُبْحَانَهُ فِي مُحْكَمِ آيَاتِهِ إِلَى أَنَّ الْأُمَمَ مَا سَقَطَتْ مِنْ عَرْشِ عِزِّهَا، وَلَا بَادَتْ وَمُحِيَ اسْمُهَا مِنْ لَوْحِ الْوُجُودِ إِلَّا بَعْدَ نُكُوبِهَا عَنْ تِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي سَنَّهَا اللهُ عَلَى أَسَاسِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ مِنْ عِزَّةٍ وَسُلْطَانٍ وَرَفَاهَةٍ وَخَفْضِ عَيْشٍ وَأَمْنٍ وَرَاحَةٍ، حَتَّى يُغَيِّرَ أُولَئِكَ مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ نُورِ الْعَقْلِ، وَصِحَّةِ الْفِكْرِ، وَإِشْرَاقِ الْبَصِيرَةِ، وَالِاعْتِبَارِ بِأَفْعَالِ اللهِ فِي الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالتَّدَبُّرِ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ جَارُوا عَنْ صِرَاطِ اللهِ فَهَلَكُوا، وَحَلَّ بِهِمُ الدَّمَارُ، ثُمَّ لِعُدُولِهِمْ عَنْ سُنَّةِ الْعَدْلِ، وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَرِيقِ الْبَصِيرَةِ وَالْحِكْمَةِ، حَادُوا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فِي الرَّأْيِ، وَالصِّدْقِ فِي الْقَوْلِ، وَالسَّلَامَةِ فِي الصَّدْرِ، وَالْعِفَّةِ عَنِ الشَّهَوَاتِ، وَالْحَمِيَّةِ عَلَى الْحَقِّ، وَالْقِيَامِ بِنَصْرِهِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى حِمَايَتِهِ، خَذَلُوا الْعَدْلَ، وَلَمْ يُجْمِعُوا هِمَمَهُمْ عَلَى إِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَاتَّبَعُوا الْأَهْوَاءَ الْبَاطِلَةَ، وَانْكَبُّوا عَلَى الشَّهَوَاتِ الْفَانِيَةِ، وَأَتَوْا عَظَائِمَ الْمُنْكَرَاتِ، خَارَتْ عَزَائِمُهُمْ، فَشَحُّوا بِبَذْلٍ مُهَجِهِمْ فِي حِفْظِ السُّنَنِ الْعَادِلَةِ وَاخْتَارُوا الْحَيَاةَ فِي الْبَاطِلِ عَلَى الْمَوْتِ فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ، فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ، وَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ.

هَكَذَا جَعَلَ اللهُ بَقَاءَ الْأُمَمِ وَنَمَاءَهَا فِي التَّحَلِّي بِالْفَضَائِلِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ هَلَاكَهَا وَدَمَارَهَا فِي التَّخَلِّي عَنْهَا. سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأُمَمِ، وَلَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَجْيَالِ، كَسُنَّتِهِ تَعَالَى فِي الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ، وَتَقْدِيرِ الْأَرْزَاقِ، وَتَحْدِيدِ الْآجَالِ.

عَلَيْنَا أَنْ نَرْجِعَ إِلَى قُلُوبِنَا، وَنَمْتَحِنَ مَدَارِكَنَا، وَتَسَيُّرَ أَخْلَاقِنَا، وَنُلَاحِظَ مَسَالِكَ سَيْرِنَا، لِنَعْلَمَ هَلْ نَحْنُ عَلَى سِيرَةِ الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، هَلْ نَحْنُ نَقْتَفِي أَثَرَ السَّلَفِ الصَّالِحِ؟ هَلْ غَيَّرَ اللهُ مَا بِنَا قَبْلَ أَنْ نُغَيِّرَ مَا بِأَنْفُسِنَا، وَخَالَفَ فِينَا حُكْمَهُ، وَبَدَّلَ فِي أَمْرِنَا سُنَّتَهُ؟ حَاشَاهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ، بَلْ صَدَقَنَا اللهُ وَعْدَهُ، حَتَّى

إِذَا فَشِلْنَا وَتَنَازَعْنَا فِي الْأَمْرِ، وَعَصَيْنَاهُ مِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>