رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَظْفَرَهُ اللهُ بِهِمْ بَعْدَ حِصَارٍ شَدِيدٍ لِحُصُونِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ سَبْعٍ. وَبِذَلِكَ زَالَتْ قُوَّةُ الْيَهُودِ مِنْ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا.
هَذَا وَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا كَانَ مَنْ أَمْرِ الْيَهُودِ مِمَّا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ، أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ بِإِجْلَاءِ مَنْ بَقِيَ فِي ذِمَّتِهِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانُوا رَاضِينَ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَدْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ أَنْ نَصَحَ لِلْبَاقِينَ مِنْهُمْ قَبْلَ إِجْلَائِهِمْ بِبَيْعِ أَمْوَالِهِمْ وَإِحْرَازِ أَثْمَانِهَا، فَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا - وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ: " انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى الْيَهُودِ " فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى جِئْنَا بَيْتَ الْمِدْرَاسِ، فَقَامَ النَّبِيُّ ـ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَنَادَاهُمْ: " يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا " فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ: " ذَلِكَ أُرِيدُ " ثُمَّ قَالَهَا الثَّانِيَةَ، فَقَالُوا: قَدْ بَلَّغْتَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: " اعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئًا فَلْيَبِعْهُ وَإِلَّا فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ " اهـ.
قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ " ذَلِكَ أُرِيدُ " مَعْنَاهُ أُرِيدُ اعْتِرَافَكُمْ بِأَنَّنِي بَلَّغْتُ دَعْوَةَ رَبِّي لَا أَنْ أُكْرِهَكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَإِنَّ إِيذَائِي إِيَّاكُمْ بِالْجَلَاءِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ بِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ وَعَدَمِ إِجَابَتِهَا، وَقَوْلُهُ: " إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ " مَعْنَاهُ أَنَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَحُكْمًا وَلِرَسُولِهِ تَنْفِيذًا لِلْحُكْمِ وَتَصَرُّفًا فِي الْأَرْضِ بِأَمْرِهِ.
وَبَعْدَ هَذِهِ الْعِبَرِ أَمَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِإِجْلَاءِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَبِأَلَّا يَبْقَى فِيهَا دِينَانِ، بَلْ لِهَذَا سِرٌّ ظَهَرَ لِلْعِيَانِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَوْلُهُ وَهُوَ أَوْضَحُ: إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِي جُحْرِهَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الْمُزَنِيِّ بِلَفْظِ " إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الْأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ " إِلَخْ. وَرَوَى أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ (أَوَّلِهَا) : " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ " وَرَوَى أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لَا أَدَعَ فِيهَا إِلَّا مُسْلِمًا " وَرَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ قَالَ: لَا يَبْرُكُ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute