وَإِنْ كَانَ مُعَاهِدًا أَوْ ذِمِّيًّا فَلَهُ مِنْ حَقِّ الْبِرِّ وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي الْوَالِدَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (٣١: ١٥) ثُمَّ قَالَ فِي الْكُفَّارِ عَامَّةً: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٦٠: ٨) فَالْبِرُّ وَالْعَدْلُ مَشْرُوعَانِ عَامَّانِ فِي حُدُودِ الشَّرْعِ، وَمَحِلُّ تَفْصِيلِ هَذَا الْبَحْثِ تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ.
ثُمَّ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فَهُوَ تَذْيِيلٌ اسْتِئْنَافِيٌّ لِأَحْكَامِ هَذَا السِّيَاقِ الْأَخِيرِ بَلْ لِجَمِيعِ أَحْكَامِ السُّورَةِ وَحِكَمِهَا، مُبَيِّنٌ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا وَجْهَ لِنَسْخِهَا وَلَا نَقْضِهَا، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى شَرَعَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ وَالْعُهُودِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَمَا قَبْلَهَا مِمَّا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَالْغَنَائِمِ، وَقَوَاعِدِ التَّشْرِيعِ، وَسُنَنِ التَّكْوِينِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأُصُولِ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَنْفُسِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ، عَنْ عِلْمٍ وَاسِعٍ مُحِيطٍ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِكُمُ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي السُّورَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ (٧: ٥٢) الْآيَةَ.
فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنْ يَزِيدَنَا عِلْمًا وَفِقْهًا بِأَحْكَامِ كِتَابِهِ وَحِكَمِهِ، وَأَنْ يَزِيدَنَا هِدَايَةً بِعُلُومِهِ وَآدَابِهِ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِإِتْمَامِ تَفْسِيرِهِ عَلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَأَرْسَلَهُ بِهِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
خُلَاصَةُ سُورَةِ الْأَنْفَالِ
(أَيْ مَا فِيهَا مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ، وَالسُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَقَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْعَمَلِيَّةِ، مِنْ سِيَاسِيَّةٍ وَحَرْبِيَّةٍ، وَنُجْمِلُ ذَلِكَ فِي سَبْعَةِ أَبْوَابٍ قَدْ يَدْخُلُ بَعْضُ أُصُولِهَا وَمَسَائِلِهَا فِي بَعْضٍ فَيُذَكَرُ فِي كُلِّ بَابٍ بِمَا يُنَاسِبُهُ)
مُقَدِّمَةٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّذْكِيرِ
يَنْبَغِي أَنْ يَتَذَكَّرَ الْقَارِئُ أَنْ جُلَّ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ فِي أُصُولِ الْإِيمَانِ الِاعْتِقَادِيَّةِ مِنَ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ وَقَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ. وَيَلِي ذَلِكَ فِيهَا أُصُولُ التَّشْرِيعِ الْإِجْمَالِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَالْآدَابُ وَالْفَضَائِلُ الثَّابِتَةُ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي خُلَاصَةِ كُلٍّ مِنْ سُورَتَيِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَعْرَافِ، وَيَتَخَلَّلُ هَذَا وَذَاكَ مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِتِلْكَ الْأُصُولِ وَدَحْضُ شُبُهَاتِهِمْ، وَإِبْطَالُ ضَلَالَتِهِمْ، وَتَشْوِيهُ خُرَافَاتِهِمْ.
وَأَمَّا السُّوَرُ الْمَدَنِيَّةُ فَتَكْثُرُ فِيهَا قَوَاعِدُ الشَّرْعِ التَّفْصِيلِيَّةُ، وَأَحْكَامُ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةُ، بَدَلًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute