للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْإِجْلَالِ لِرَبِّهِمُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْخَالِقِ الرَّازِقِ الْمُدَبِّرِ الْمُسَخِّرِ الْقَابِضِ الْبَاسِطِ الْخَافِضِ الرَّافِعِ الْمُعِزِّ الْمُذِلِّ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ، وَيَلِيهِ الْوَجَلُ مِنْ جَهْلِ الْعَاقِبَةِ، وَمِنَ الْعُقُوبَةِ بِالْحِجَابِ أَوِ الْعَذَابِ. وَهَذَا الشُّعُورُ بِأَنْوَاعِهِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْوِجْدَانِيِّ وَثَمَرَتُهُ.

(الْأَصْلُ الثَّالِثُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ أَنْ يَزْدَادَ إِيمَانًا إِذَا تَلَا أَوْ تُلِيَتْ عَلَيْهِ آيَاتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنْ يَرْبُوَ شُعُورُهُ فِي قَلْبِهِ فَيَكُونَ وِجْدَانًا لَا يَحُومُ حَوْلَهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مُغَالَطَةٌ وَلَا جَدَلٌ - وَبِأَنْ يُعْطَى فَهْمًا فِي الْقُرْآنِ، بِمَا يُفْتَحُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْآيَاتِ آنًا بَعْدَ آنٍ، مِنْ مَدْلُولَاتِ نُصُوصِهَا وَفَحْوَى عِبَارَاتِهَا، وَدَقَائِقِ إِشَارَاتِهَا - وَبِمَا يُؤْتَى مِنَ الْعِبْرَةِ وَالْمَوْعِظَةِ بِتَدَبُّرِهِ، فَيَكُونَ مُزْجِيًا لَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ، فَالْإِيمَانُ يَزِيدُ بِالْكَيْفِ وَبِالْكَمِّ جَمِيعًا، وَمَنْ ذَاقَ عَرَفَ، وَهَذِهِ آيَةُ الْإِيمَانِ الْمُشْتَرِكِ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْوِجْدَانِ، وَهُمَا الْبَاعِثَانِ عَلَى الْأَعْمَالِ.

(الْأَصْلُ الرَّابِعُ) أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ تَعَالَى، أَيْ يَكِلَ أُمُورَهُ إِلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا أَفَادَهُ الْحَصْرُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَفِي مَعْنَاهَا آيَاتٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، بَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْحَصْرِ كَهَذِهِ الْآيَةِ، وَبَعْضُهَا بِصِيَغٍ أُخْرَى اقْتَضَتْهَا الْحَالُ، وَلِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ.

التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَعْلَى مَقَامَاتِ التَّوْحِيدِ. فَالْمُؤْمِنُ الْمُوَحِّدُ الْكَامِلُ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَى مَخْلُوقٍ مَرْبُوبٍ لِخَالِقِهِ مِثْلِهِ، بَلْ مَشْهَدُهُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَنَّهَا أَسْبَابٌ سَخَّرَ اللهُ بَعْضَهَا لِبَعْضٍ فِي نِظَامِ التَّقْدِيرِ الْعَامِّ، الَّذِي أَقَامَ بِهِ أُمُورَ الْعَالَمِ الْمُخْتَارُ مِنْهَا وَغَيْرُ الْمُخْتَارِ، فَكُلُّهَا سَوَاءٌ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِهِ فِي الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَالسُّجُودِ لَهُ فِي الِانْفِعَالِ بِتَقْدِيرِهِ فِي نِظَامِ الْكَائِنَاتِ، وَهِيَ فِيمَا وَرَاءَ تَسْخِيرِهِ إِيَّاهَا سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ عَنِ النَّفْعِ وَالضُّرِّ إِيجَابًا وَسَلْبًا فَشَأْنُ الْمُؤْمِنَ الْمُتَوَكِّلِ فِي دَائِرَةِ الْأَسْبَابِ أَنْ يَطْلُبَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ سَبَبِهِ، خُضُوعًا لِسُنَنِهِ تَعَالَى فِي نِظَامِ خَلْقِهِ، وَهُوَ بِذَلِكَ يَطْلُبُهَا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُ أَنْ يَطْلُبَهَا أَمْرًا تَكْوِينِيًّا قَدَرِيًّا، وَتَشْرِيعِيًّا تَكْلِيفِيًّا، فَإِذَا جَهِلَ الْأَسْبَابَ أَوْ عَجَزَ عَنْهَا، وَكَّلَ أَمْرَهُ فِيهَا إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى، دَاعِيًا إِيَّاهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ مَا جَهِلَ بِمَا سَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الْعِلْمِ، وَمِنْهَا الْإِلْهَامُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ - وَأَنْ يُسَخِّرَ لَهُ مَا عَجَزَ عَنْهُ مِنْ جَمَادٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ إِنْسَانٍ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فَائِدَتَهُ فِي قَوْلِهِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَقَدْ بَيَّنَّا مَوْقِعَهُ فِي تَفْسِيرِهَا (ص٤٩٣ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَفِي آيَةِ: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ (٦١) وَبَيَّنَّا مَوْقِعَهَا فِي تَفْسِيرِهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ، وَتَقَدَّمَ قَبْلَهَا فِي مَعْنَاهَا، وَهُوَ مُتَمِّمٌ لَهُ قَوْلُهُ: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ (٦٢) وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ بَعْدَهَا: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) فَالْإِحْسَابُ جَزَاءُ التَّقْوَى، كَمَا وَرَدَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.

التَّوَكُّلُ مُؤَلَّفٌ مِنَ الْإِيمَانِ الِاسْتِفَادِيِّ الْوِجْدَانِيِّ، وَمِنَ الْعَمَلِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ، فَكَمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>