فِي مَصَالِحِهَا الْعَامَّةِ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْمُلْكِ أَوِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ (ص٥٣٠ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا لَهُ تَأْثِيرٌ فِي تَفَرُّقِهَا وَضَعْفِهَا كَفُشُوِّ الْفِسْقِ وَالْإِسْرَافِ فِي التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ الْمُفْسِدِ لِلْأَخْلَاقِ، وَهُوَ لَا يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ إِلَّا بِتَرْكِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ الَّذِي تَأْثَمُ بِهِ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، وَكُلٌّ مِنْ هَذَا وَذَاكَ ثَابِتٌ فِي وَقَائِعِ التَّارِيخِ، وَمِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ - إِلَى قَوْلِهِ: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤) وَهُوَ قَدْ وَرَدَ شَاهِدًا لِسُنَّةٍ أُخْرَى سَيَأْتِي بَيَانُهَا.
(السُّنَّتَانِ: الثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ) كَوْنُ الِافْتِتَانِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مَدْعَاةً لِضُرُوبٍ مِنَ الْفَسَادِ، فَإِنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالْوَلَدِ مِنَ الْغَرَائِزِ الَّتِي يَعْرِضُ لِلنَّاسِ فِيهَا الْإِسْرَافُ وَالْإِفْرَاطُ إِذَا لَمْ تُهَذَّبْ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَلَمْ تُشَذَّبْ بِحُسْنِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ، قَالَ تَعَالَى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٨: ٢٨) وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (ص٥٣٦ وَمَا بَعْدَهَا ج ٩ ط الْهَيْئَةِ) .
(السُّنَّةُ الْخَامِسَةُ) مَا ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، وَأَخْبَارِ التَّارِيخِ مِنْ عِقَابِ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْجَاحِدِينَ الَّذِينَ عَانَدُوا الرُّسُلَ وَهُوَ قِسْمَانِ: عِقَابُ الَّذِينَ عَاجَزُوهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا عَلَى تَوَعُّدِهِمْ بِالْهَلَاكِ، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أَوْعَدَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِمْ، وَعِقَابُ الَّذِينَ عَادَوْهُمْ
وَقَاتَلُوهُمْ فَأَخْزَاهُمُ اللهُ، وَنَصَرَ رُسُلَهُ عَلَيْهِمْ. وَقَدْ كَانَ هَذَا مُطَّرِدًا وَسَمَّاهُ اللهُ تَعَالَى سُنَّةً فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (٨: ٣٨) .
وَلْيُعْلَمْ أَنَّ النَّوْعَ الْأَوَّلَ مِنْ هَذَيْنِ الْعِقَابَيْنِ هُوَ غَيْرُ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِي تِلْكَ سَبَبٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِلْعِقَابِ، وَفِي هَذِهِ لَيْسَ سَبَبًا طَبِيعِيًّا بَلْ وَضْعِيًّا تَشْرِيعِيًّا بِمُقْتَضَى وَعِيدِ اللهِ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ الذَّنْبُ وَاحِدًا - وَهُوَ تَكْذِيبُ الرُّسُلِ وَمُعَانَدَتُهُمْ - وَالْعِقَابُ عَلَيْهِ مُخْتَلِفًا فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا (٢٩: ٤٠) .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْأَمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، وَالْمَصَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبَيْنَ الْعُقُوبَاتِ الْحُكُومِيَّةِ، فَإِنَّ الْأُولَى: تَحْدُثُ بِسَبَبِ مُخَالَفَةِ نِظَامِ الْفِطْرَةِ، وَسُنَنِ حِفْظِ الصِّحَّةِ فَهِيَ عِلَّةٌ وَسَبَبٌ طَبِيعِيٌّ لَهَا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْعُقُوبَاتُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الشَّرَائِعِ وَالْقَوَانِينِ عَلَى جَرَائِمِ الْأَفْرَادِ - كَالْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ وَالتَّعْزِيرِ بِالْحَبْسِ أَوِ الضَّرْبِ أَوِ التَّغْرِيمِ بِالْمَالِ عَلَى مَنْ قَتَلَ أَوْ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ ضَرَبَ أَوْ غَصَبَ - فَهِيَ وَضْعِيَّةٌ تَكْلِيفِيَّةٌ تَقَعُ بِفِعْلِ مُنَفِّذِ الشَّرْطِ وَالْقَانُونِ، وَلَوْ كَانَتْ أَسْبَابًا تَكْوِينِيَّةً طَبِيعِيَّةً لِلْعِقَابِ الَّذِي يَحْكُمُ بِهِ الْقَاضِيَ، وَيُنَفِّذُهُ السُّلْطَانُ لَوَقَعَ بِدُونِ حُكْمٍ، وَلَا تَنْفِيذِ مُنَفِّذٍ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعِقَابٍ طَبِيعِيٍّ آخَرَ غَيْرِ عِقَابِ الشَّرْعِ وَالْقَانُونِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute