بِمَا تُحْدِثُهُ مِنَ الضَّرَرِ فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فِي الْأُمَّةِ، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَى النَّاسِ شَيْئًا إِلَّا لِضَرَرِهِ، حَتَّى إِذَا مَا كَثُرَتْ وَفَشَتْ فَصَارَتْ ذَنْبًا لِلْأُمَّةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي السُّنَّةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عِقَابِ الْأُمَّةِ بِفُشُوِّ الْفِسْقِ، وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ وَهَذِهِ السُّنَنَ مِرَارًا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ يَنْقَسِمُ إِلَى هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ أَيْضًا. (فَيُرَاجَعُ فِي مَوَاضِعِهِ بِدَلَالَةِ فَهَارِسِ الْأَجْزَاءِ كَلَفْظِ جَزَاءٍ وَعَذَابٍ وَعِقَابٍ وَأُمَمٍ) .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ عِقَابِ مُعَانِدِي الرُّسُلِ، فَهُوَ يُشْبِهُ عَذَابَ الْأُمَمِ عَلَى ظُلْمِهَا وَفُسُوقِهَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: يُشْبِهُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ وَمُقَاتِلِيهِمْ كَانُوا دَائِمًا ظَالِمِينَ لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ مَا جَاءُوهُمْ إِلَّا بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَمَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، مَعَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ، إِلَّا وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وَهُمُ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ، فَنَصْرُ اللهِ تَعَالَى لِرُسُلِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي مَوَاضِعَ مِنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَغَيْرِهَا كَانَ الْأَصْلُ الْأَصِيلُ فِيهِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي بَابِ الْأَسْبَابِ الطَّبِيعِيَّةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَسُنَّةِ تَنَازُعِ الْبَقَاءِ وَرُجْحَانِ الْأَمْثَلِ، وَيُخَالِفُهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ وُجُودَ الرَّسُولِ فِي الْمُؤْمِنِينَ ضَامِنٌ لِالْتِزَامِهِمُ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَمُرَاعَاةَ السُّنَنِ الْعَامَّةِ، حَتَّى إِذَا مَا خَالَفُوا وَشَذُّوا بِنُكُوبِ السَّبِيلِ مَرَّةً تَابُوا وَآنَابُوا، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَتَيْ أُحُدٍ وَحُنَيْنٍ، وَوَقَعَ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى وَغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ وَجُودَهُ فِيهِمْ كَانَ يَكُونُ سَبَبًا لِتَأْيِيدِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ آيَاتِهِ كَمَا وَقَعَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِمْدَادِهِمْ بِالْمَلَائِكَةِ يُثَبِّتُونَ قُلُوبَهُمْ، وَبِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ أَعْدَائِهِمْ، وَبِمَا كَانَ مِنْ رَمْيِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِيَّاهُمْ بِقَبْضَةٍ مِنَ التُّرَابِ أَصَابَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَضْعَفَتْ قَلْبَهُ، بَلْ أَطَارَتْ لُبَّهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي خُرُوجِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى بَدْرٍ، وَفِي وَعْدِهِ إِيَّاهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَهُمْ عَلَى الْإِبْهَامِ، وَفِي إِنْزَالِهِ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ حَيْثُ انْتَفَعُوا بِهِ مِنْ دُونِ الْكُفَّارِ - فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ بِجُمْلَتِهَا كَانَتْ تَوْفِيقَ أَقْدَارٍ لِأَقْدَارٍ فِي مَصْلَحَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَكَانَتْ عِنَايَةً مِنْهُ تَعَالَى بِهِمْ، أَكْثَرُهَا مِنْ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُونَهَا بِكَسْبِهِمْ.
وَزِدْ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ فِي بَعْضِ الْخَوَارِجِ الْكَوْنِيَّةِ لَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَإِطْعَامِ الْجَيْشِ الْكَثِيرِ مِنْ طَعَامٍ قَلِيلٍ أُعِدَّ لِعَدَدٍ قَلِيلٍ فَبَارَكَ اللهُ تَعَالَى
فِيهِ، وَكَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِمَا أَمَدَّهُ اللهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ مَادَّةِ الْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْهَوَاءِ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي تَكْوِينِ الْمَاءِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ (٢٤: ٤٣) وَمِثْلُهُ آيَةُ (٣٠: ٤٨) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute