للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مِمَّا أَوْجَبَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَحَدَّثُوا بِاسْتِنْكَارِهِ، وَالصَّوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نُزُولِهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا، وَأَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُمْ شَكَوْا مِنْهُ.

وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ وَالْحَالُ مَا ذُكِرَ فَأُولَئِكَ الْمُتَوَلُّونَ لَهُمْ هُمُ الظَّالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِجَمَاعَتِهِمْ، الْعَرِيقُونَ فِي الظُّلْمِ الرَّاسِخُونَ فِيهِ بِوَضْعِ الْوِلَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْبَرَاءَةِ، وَالْمَوَدَّةِ فِي مَحَلِّ الْعَدَاوَةِ، دُونَ مَنْ لَمْ تَسْتَخِفَّهُ نَعْرَةُ الْقَرَابَةِ وَحَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ النَّسَبِيَّةُ إِلَى أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى وِلَايَةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِهِمْ وَمُظَاهَرَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ. فَهُوَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ: لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٦٠: ٨ و٩) فَإِنَّمَا النَّهْيُ عَنْ وِلَايَةِ الْحَرْبِ وَالنُّصْرَةِ لِلْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لَنَا لِأَجْلِ دِينِنَا. وَمِثْلُهُ النَّهْيُ عَنْ تَوَلِّي أَهْلِ الْكِتَابِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥: ٥١) فَالظُّلْمُ فِي الْآيَاتِ الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ وَالْوِلَايَةُ وَاحِدَةٌ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَّرَ الظُّلْمَ فِي آيَةِ: " بَرَاءَةٍ " بِالشِّرْكِ; لِأَنَّ مُتَوَلِّيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي آيَةِ " الْمِائِدَةِ ": وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا فِي الْوِلَايَةِ التَّامَّةِ دُونَ مِثْلِ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ مُتَأَوِّلًا.

ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ بَيَانِ هَذِهِ الدَّرَكَةِ مِنَ الْإِخْلَالِ بِحُقُوقِ الْإِيمَانِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ إِلَى الدَّرَكَةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لَهَا فَقَالَ: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا

وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْخِطَابَ فِي النَّهْيِ عَنِ الْجَرِيمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ وِلَايَةُ الْكَافِرِينَ الْمُعَادِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِعُنْوَانِهِمْ مُبَاشَرَةً، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ فِي أَمْرِ الْجَرِيمَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْوَعِيدِ عَلَيْهَا عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَعْطِفَ هَذَا عَلَى مَا قَبْلَهُ فَيَكُونُ خِطَابًا مِنْهُ بِعُنْوَانِ صِفَةِ الْإِيمَانِ الْمُنَافِي لِمَضْمُونِهِ ; وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ الَّتِي مِنْ شَأْنِ شَرْطِهَا أَنْ يَكُونَ مَشْكُوكًا فِي وُقُوعِهِ أَوْ مِنْ شَأْنِهِ أَلَّا يَقَعَ وَهِيَ (إِنْ) وَلَمْ يُرَتِّبْ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَى أَصْلِ الْحُبِّ، لِمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مِنْ مَجَامِعِ حُظُوظِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا; لِأَنَّهُ غَرِيزِيٌّ، بَلْ رَتَّبَهُ عَلَى تَفْضِيلِ هَذِهِ الْحُظُوظِ وَالشَّهَوَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ فِي الْحُبِّ عَلَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنْوَاعِ السَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَكَذَا مَا دُونَهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَنْكِيرُ كَلِمَةِ " جِهَادٍ " هُنَا. وَذِكْرُ الْأَبْنَاءِ وَالْأَرْوَاحِ هُنَا دُونَ آيَةِ النَّهْيِ عَنِ الْوِلَايَةِ; لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَوَلَّى فِي الْحَرْبِ مَنْ فَوْقَهُ كَالْأَبِ وَمَنْ هُوَ مِثْلُهُ كَالْأَخِ

<<  <  ج: ص:  >  >>