للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لَهُ كَابْنِهِ وَزَوْجِهِ، وَلَكِنَّهُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي الْحُبِّ، وَإِنَّنَا نُبَيِّنُ مَرَاتِبَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ فِي الْحُبِّ، وَنُقَفِّي عَلَيْهَا بِمَعْنَى حُبِّ اللهِ وَرَسُولِهِ، وَكَوْنِ الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ لَا يُؤَثِّرُ عَلَيْهِمَا شَيْئَانِ مِنْهَا، وَلَا يَعْلُو حُبَّهُمَا عِنْدَهُ حُبُّ شَيْءٍ سِوَاهُمَا: (١) حُبُّ الْأَبْنَاءِ لِلْآبَاءِ لَهُ مَنَاشِئُ مِنْ غَرَائِزِ النَّفْسِ وَشُعُورِهَا وَعَوَاطِفِهَا وَعَوَارِفِهَا وَمَعَارِفِهَا وَطِبَاعِهَا، وَمِنْ عُرْفِ الْأَقْوَامِ وَآدَابِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَشَرَائِعِهِمْ وَدِينِهِمْ، فَالْوَلَدُ بِضْعَةٌ مِنْ أَبِيهِ يَرِثُ بَعْضَ صِفَاتِهِ وَطِبَاعِهِ وَشَمَائِلِهِ مِنْ جَسَدِيَّةٍ وَنَفْسِيَّةٍ وَعَقْلِيَّةٍ، وَأَوَّلُ شَيْءٍ يَشْعُرُ بِهِ، وَيُنَمَّى فِي نَفْسِهِ بِنَمَاءِ تَمْيِيزِهِ وَعَقْلِهِ، إِحْسَانُ وَالِدَيْهِ إِلَيْهِ، وَاقْتِرَانُ صُورَتِهِمَا فِي خَيَالِهِ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ لَهُ، وَيَتْلُو هَذَا شُعُورُهُ بِمَا هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْحَنَانِ وَالْعَطْفِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِ وَالْحُبِّ الْخَالِصِ لَهُ الَّذِي لَا يَشُوبُهُ رِيَاءٌ وَلَا تُهَمَةٌ،

وَلِلْوَالِدَةِ الْقَدْحُ الْمُعَلَّى فِي هَذَيْنِ - وَيَفُوقُهَا الْوَالِدُ بِمَا يَحْدُثُ لِلْوَلَدِ بَعْدَ هَذَا مِنْ شُعُورِ الْإِعْجَابِ بِالْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ مِنَ الْغَرَائِزِ، وَالطِّفْلُ يَشْعُرُ بِأَنَّ أَبَاهُ أَعْظَمُ النَّاسِ، وَأَحَقُّهُمْ بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ. وَهَذَا الشُّعُورُ إِمَّا أَنْ يُنَمَّى وَيَزْدَادَ فِي الْكِبَرِ إِذَا كَانَ الْوَالِدُ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَإِمَّا أَنْ يَضْعُفَ، وَلَكِنَّهُ قَلَّمَا يَزُولُ عَيْنًا وَأَثَرًا، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ. وَقَدْ كَانَ الْعَرَبُ يَتَفَاخَرُونَ بِآبَائِهِمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَفِي مَعَاهِدِ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا (٢: ٢٠٠) يَتْلُو ذَلِكَ شُعُورُهُ عِزَّةَ الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ لَهُ مِنْ وَالِدِهِ وَالذَّوْدَ عَنْهُ وَالِانْتِقَامَ لَهُ إِذَا ضِيمَ، وَفَوْقَ هَذَا شُعُورُ الشَّرَفِ، فَهُوَ يَشْرُفُ بِشَرَفِهِ، وَيُحْقَرُ بِضِعَتِهِ وَخِسَّتِهِ. فَإِنْ أُهِينَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَرْجُفُ أَعْصَابُهُ وَيَتَبَيَّغُ دَمُهُ، وَلَا تَكَادُ تَهْدَأُ ثَائِرَتُهُ إِلَّا بِالِانْتِقَامِ لَهُ.

تُؤَيِّدُ هَذِهِ الْأَنْوَاعَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْغَرَائِزِ مَلَكَاتٌ تَطْبَعُهَا الْحُقُوقُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْآدَابُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ وَالشَّرَائِعُ الدِّينِيَّةُ، فَاللهُ تَعَالَى قَدْ قَرَنَ الْإِحْسَانَ بِالْوَالِدَيْنِ بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهِ: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (١٧: ٢٣) إِلَخْ. وَقَرَنَ شُكْرَهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (٣١: ١٤) ثُمَّ إِنَّهُ أَمَرَ بِمُعَامَلَتِهِمَا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ، مَعَ نَهْيِهِ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذَا دَعَوَاهُ إِلَى الشِّرْكِ فَقَالَ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (٣١: ١٥) .

فَهَذِهِ مَجَامِعُ نَوَازِعِ حُبِّ الْوَلَدِ الْوَالِدَ، وَالْوَالِدَةُ تَفُوقُهُ فِي بَعْضِهَا، وَتَتَخَلَّفُ عَنْهُ فِي بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَ الْوَالِدُونَ هُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ وَيَحْتَاجُونَ إِلَى الْمُوَالَاةِ وَالْمُنَاصَرَةِ دُونَ الْوَالِدَاتِ اقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِهِمْ، تَبَعًا لِنَهْيهِ عَنْ مُوَالَاتِهِمْ ; لِأَنَّ مُوَالَاتَهُمْ لَهُمْ مِنْ قَبِيلِ طَاعَتِهِمْ فِي الشِّرْكِ الَّذِي

<<  <  ج: ص:  >  >>