للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّهَا سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ; لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بِأَرْضِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ جَمَعُوا جُمُوعَ الْعَرَبِ مِنَ الْقَبَائِلِ الْأُخْرَى لِقِتَالِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَكَانُوا هُمُ الْمُوقِدِينَ لِنَارِ الْحَرْبِ وَالْمَقْصُودِينَ بِهَا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بَدَلٌ مِنْ " يَوْمِ حُنَيْنٍ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ لَهُ، وَحَاصِلُ مَعْنَاهُ مَعَ مَا سَبَقَهُ أَنَّهُ نَصَرَكُمْ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ مَا كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ فِيهَا بِالنَّصْرِ بِمَحْضِ اسْتِعْدَادِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ; لِقِلَّةِ عَدَدِكُمْ وَعَتَادِكُمْ، وَنَصَرَكُمْ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَعْجَبَتْكُمْ فِيهِ كَثْرَتُكُمْ إِذْ كُنْتُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَكَانَ الْكَافِرُونَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ فَقَطْ، فَقَالَ قَاتِلُكُمْ مُعَبِّرًا عَنْ رَأْيِ الْكَثِيرِينَ الَّذِينَ غَرَّتْهُمُ الْكَثْرَةُ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ رُوَاةِ السِّيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَرَدَّهُ الرَّازِيُّ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَنَرُدُّهُ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ خِلَافُهُ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي زِيَادَاتِ الْمَغَازِي عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَوْمَ حُنَيْنٍ: لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ. اهـ. أَيْ وَقَعَتْ بِأَسْبَابِهَا فَكَانَتْ عُقُوبَةً عَلَى هَذَا الْغُرُورِ وَالْعُجْبِ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ، وَتَرْبِيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ حَتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى الْغُرُورِ بِالْكَثْرَةِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا أَحَدَ الْأَسْبَابِ الْمَادِّيَّةِ الْكَثِيرَةِ لِلنُّصْرَةِ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمَعْنَوِيَّةِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ أَعْظَمُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنِ الْمُؤْمِنِينَ الْكَامِلِينَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قِيمَةَ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَالصَّبْرِ وَالثِّقَةِ بِاللهِ وَالِاتِّكَالِ عَلَيْهِ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢: ٢٤٩) وَكَذَلِكَ وَقَعَتِ الْهَزِيمَةُ بِأَسْبَابِهَا فِي يَوْمِ أُحُدٍ عُقُوبَةً وَتَرْبِيَةً كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَحَلِّهِ.

فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا أَيْ: فَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْكَثْرَةُ الَّتِي أَعْجَبَتْكُمْ وَغَرَّتْكُمْ كَافِيَةً لِانْتِصَارِكُمْ بَلْ لَمْ تَدْفَعْ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ عَارِ الْغَلَبِ وَالْهَزِيمَةِ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ أَيْ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِرَحْبِهَا وَسِعَتِهَا فَلَمْ تَجِدُوا لَكُمْ فِيهَا مَذْهَبًا وَلَا مُلْتَحَدًا ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أَيْ وَلَّيْتُمْ ظُهُورَكُمْ لِعَدُوِّكُمْ مُدْبِرِينَ لَا تَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ السِّكِّينَةُ: اسْمٌ لِلْحَالَةِ وَالْهَيْئَةِ النَّفْسِيَّةِ الْحَاصِلَةِ مِنَ السُّكُونِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَهِيَ ضِدُّ الِاضْطِرَابِ وَالِانْزِعَاجِ، وَتُطْلَقُ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ عَلَى الرَّزَانَةِ وَالْمَهَابَةِ وَالْوَقَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَفْرَغَ مِنْ سَمَاءِ عِزَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ سَكِينَتَهُ اللَّدُنِّيَّةَ عَلَى رَسُولِهِ بَعْدَ أَنْ عَرَضَ لَهُ مَا عَرَضَ مِنَ الْأَسَفِ وَالْحُزْنِ عَلَى أَصْحَابِهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْهَزِيمَةِ لَهُمْ، عَلَى أَنَّهُ ثَبَتَ كَالطَّوْدِ الرَّاسِي نَفَسًا، وَلَمْ يَزْدَدْ إِلَّا شَجَاعَةً وَإِقْدَامًا وَبَأْسًا

<<  <  ج: ص:  >  >>