(فَصْلٌ) وَلَا يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ الْمُؤَبَّدَةِ إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: (الْأَوَّلُ) أَنْ يَلْتَزِمُوا الْجِزْيَةَ فِي كُلِّ حَوْلٍ. (الثَّانِي) الْتِزَامُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ قَبُولُ مَا يَحْكُمُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَدَاءِ حَقٍّ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَقَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَدِيثِ بُرَيْدَةَ: " فَادْعُهُمْ إِلَى أَدَاءِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ " وَلَا تُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ الْإِعْضَاءِ وَلَا جَرَيَانُ الْأَحْكَامِ ; لِأَنَّ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ إِنَّمَا يَكُونُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ وَالْكَفَّ عَنْهُمْ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْبَذْلِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: حَتَّى يُعْطُوا أَيْ: يَلْتَزِمُوا الْإِعْطَاءَ، وَيُجِيبُوا إِلَى بَذْلِهِ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ (٥) وَالْمُرَادُ بِهِ الْتِزَامُ ذَلِكَ دُونَ حَقِيقَتِهِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا عِنْدَ الْحَوْلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
" مَسْأَلَةٌ " قَالَ: (وَمَنْ سِوَاهُمْ فَالْإِسْلَامُ أَوِ الْقَتْلُ) . يَعْنِي مَنْ سِوَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلَا يُقَرُّونَ بِهَا، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إِلَّا الْإِسْلَامُ فَإِنْ لَمْ يُسَلِمُوا قُتِلُوا، هَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَرَوَى عَنْهُ الْحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَّارِ إِلَّا عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ ; لِأَنَّ حَدِيثَ بُرَيْدَةَ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى قَبُولِ الْجِزْيَةِ مِنْ كُلِّ كَافِرٍ إِلَّا أَنَّهُ خَرَّجَ مِنْهُ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ مِنَ الْعَرَبِ ; لِتَغَلُّظُ كُفْرِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) دِينُهُمْ (وَالثَّانِي) كَوْنُهُمْ مِنْ رَهْطِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ إِلَّا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسِ، لَكِنْ فِي أَهْلِ الْكُتُبِ غَيْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلِ أَهْلِ صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَشِيثَ وَزَبُورِ دَاوُدَ وَمَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَجْهَانِ (أَحَدُهُمَا) يُقَرُّونَ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَشْبَهُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِ الْكُفَّارِ إِلَّا الْعَرَبَ ; لِأَنَّهُمْ رَهْطُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَا يُقَرُّونَ عَلَى غَيْرِ دِينِهِ وَغَيْرُهُمْ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ ; لِأَنَّهُ يُقَرُّ
بِالِاسْتِرْقَاقِ فَأُقِرُّوا بِالْجِزْيَةِ كَالْمَجُوسِ، وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ إِلَّا مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ; لِأَنَّهُمُ ارْتَدُّوا، وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ جَمِيعِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ لِحَدِيثِ بُرَيْدَةَ، وَلِأَنَّهُ كَافِرٌ فَيُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ.
وَلَنَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ (٩: ٥) وَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَهَذَا عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بِالْآيَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute