هَذِهِ الطَّبِيعَةُ الْمُدَّعَاةَ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ أَنْبِيَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ قَبْلَ النَّصْرَانِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَهِيَ أَصْلُ الدِّينِ فِيهَا، وَنَتِيجَةُ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ مُبْتَدَعَةٌ بَعْدَهُمْ وَهُمْ بُرَآءُ مِنْهَا.
(٢) إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ نَصِّ الْإِنْجِيلِ فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا فِي إِنْجِيلِ مَتَّى مِنْ قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ رِوَايَةً عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ (٢٨: ١٩) " وَعَمَّدُوهُمْ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ " فَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الثَّلَاثَةَ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَقَانِيمَ مُتَسَاوِيَةِ الْجَوْهَرِ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْهَا عَيْنُ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ (اللهِ) الْخَالِقِ لِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى اسْمِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا عَلَى أَنَّهَا تَتَقَاسَمُ الْأَعْمَالَ الْإِلَهِيَّةَ عَلَى السَّوَاءِ كَمَا ادَّعَاهُ فِيمَا سَمَّاهُ طَبِيعَةَ اللهِ.
وَكَذَلِكَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ رِسَالَةِ بُولُسَ الثَّانِيَةِ إِلَى كُورَنْثُوسَ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا (١٣: ١٤) نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ وَمَحَبَّةُ اللهِ وَشَرِكَةُ الرُّوحِ الْقُدُسِ مَعَ جَمِيعِهِمْ) عَلَى أَنَّنَا نَعْتَقِدُ أَنَّ بُولُسَ هُوَ وَاضِعُ أَسَاسِ الدِّيَانَةِ النَّصْرَانِيَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَجَاءَ فِيهَا بِمَا لَمْ يُؤْثَرْ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا عَنْ تَلَامِيذِهِ الْحَوَارِيِّينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ـ.
(٣) إِنَّ مَا ذُكِرَ فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ مِنِ اسْتِعْمَالِ ابْنِ اللهِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ يُنَافِي هَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَتَّفِقُ مَعَهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِنَا عِنْدَ ذِكْرِهَا فِي الْآيَاتِ مِنْ سُورَتَيْ آلِ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءِ. وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى أَهَمِّهَا آنِفًا.
(٤) إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ عِبَارَةِ الْمَزْمُورِ (٣٣: ٦) لَيْسَ فِيهِ أَدْنَى إِشَارَةٍ إِلَى
هَذِهِ الطَّبِيعَةِ الْمُبْتَدَعَةِ فِي هَذَا التَّثْلِيثِ وَهَذَا نَصُّهَا (بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ، وَبِنَسْمَةٍ فِيهِ كُلُّ جُنُودِهَا) وَهُوَ يَزْعُمُ هُنَا أَنَّ الْمُرَادَ (بِكَلِمَةِ " الرَّبِّ " الْمَسِيحُ، تَفْسِيرًا لَهَا بِرَأْيِ يُوحَنَّا فِي أَوَّلِ إِنْجِيلِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لِلْكَلِمَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ أَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ، بَلْ هُوَ مَعْنًى اخْتَرَعَهُ الَّذِي كَتَبَ إِنْجِيلَ يُوحَنَّا، وَالْمُرَجَّحُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ أَحَدُ تَلَامِيذِ بُولُسَ. وَكَانَ الدُّكْتُورُ جُورْجُ بُوسْتُ كَتَبَ هَذَا الشَّاهِدَ هُنَا قَبْلَ أَنْ يَكْتُبَ تَفْسِيرَ " الْكَلِمَةِ " فِي قَامُوسِهِ، وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَتَبَهُ نَسِيَ مَا كَانَ كَتَبَهُ هُنَا، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْهُ مَا نَصُّهُ: يُقْصَدُ بِالْكَلِمَةِ السَّيِّدُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، وَلَمْ تَرِدْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى إِلَّا فِي مُؤَلِّفَاتِ يُوحَنَّا اهـ. فَكَيْفَ فَسَّرَ بِهَا عِبَارَةَ الْمَزْمُورِ إِذًا؟
وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ عَنْ رِسَالَتَيْ بُولُسَ إِلَى كُولُوسِي، وَإِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ، وَلَوْ دَلَّ عَلَيْهَا لَكَانَ أَحَدَ دَلَائِلِنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ قَدْ وَضَعَ بُولُسُ أَسَاسَهَا، إِذْ لَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ مِنْ أَنْبِيَاءِ التَّوْرَاةِ قَبْلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَلَا الْمَسِيحُ.
(٥) قَوْلُهُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ التَّثْلِيثِ غَيْرُ وَاضِحَةٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، صَوَابُهُ: غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا بِالنَّصِّ وَلَا بِالظَّاهِرِ وَلَا بِالْفَحْوَى وَالْإِشَارَةِ الْوَاضِحَةِ. وَعَلَى أَنَّ هَذِهِ الْعَقِيدَةَ عِنْدَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute