(١) أَسْبَابُ بَقَاءِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ:
إِنَّ لِلدِّينِ الْمُطْلَقِ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحِ الْبَشَرِ ; لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلَّاتِهِمْ بِعَالَمِ الْغَيْبِ مَبْدَأً وَغَايَةً، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ; وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ وُجُودَهَا الْمَحْجُوبُونَ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ (الْمَادِّيِّ) وَهُوَ مَعَ هَذَا حَاجَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا التَّنَوُّعِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَأَعْطَى اسْتِعْدَادًا لِعِلْمٍ لَا حَدَّ لَهُ، يَهْدِي إِلَى أَعْمَالٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، فَلَا بُدَّ لِجَمَاعَتِهِ فِي التَّعَاوُنِ عَلَيْهَا مِنْ وَازِعٍ نَفْسِيٍّ وِجْدَانِيٍّ يَزَعُ كُلًّا مِنْهُمْ، وَيَرْدَعُهُ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتِمُّ عِلْمُهُ وَبُرُوزُ اسْتِعْدَادِهِ إِلَّا بِهِمْ أَيْنَمَا كَانَ وَكَانُوا، وَحَيْثُ لَا وَازِعَ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَالْعَدْلِ بِالْأَوْلَى. وَلَمْ يَعْرِفِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُوبِ دِينًا تَعْلِيمِيًّا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الدِّينُ الْفِطْرِيُّ الْمُطْلَقُ وَيَتَقَيَّدُ بِهِ إِلَّا هَذَا الدِّينَ الَّذِي لَا يَزَالُ فِيهِ أَثَارَةٌ مِنْ هِدَايَةِ طَائِفَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لَمْ تَقْوَ أَحْدَاثُ الزَّمَانِ الْقَدِيمَةُ عَلَى مَحْوِهَا، عَلَى كُلِّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عَبَثِهَا بِهَا، فَهُوَ بِهَا مُظْهِرٌ لِمَا كَانَ مِنْ تَعَرُّفِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ
إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِيَّاتِ، وَقَدْ أَتْقَنَ رُؤَسَاؤُهُ نِظَامَ تَرْبِيَتِهِمُ الْوِجْدَانِيَّةِ عَلَيْهِ، وَتَلْقِينِهِ لَهُمْ بِالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَارْتَبَطَتْ سِيَاسَتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ بِهِ، وَصَارَ وَسِيلَةً مِنْ أَقْوَى وَسَائِلِ الِاسْتِعْمَارِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشُّعُوبِ لِدُوَلِهِمْ، فَاتَّفَقَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ عَلَى نَشْرِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ بِدِعَايَةِ التَّبْشِيرِ، فَاجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ هَذِهِ الدِّعَايَةِ الْقُوَّةُ وَالْمَالُ الْكَثِيرُ، وَالْعِلْمُ وَالنِّظَامُ الدَّقِيقُ - فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقُوَى وَالْأَسْبَابِ بَقِيَ هَذَا الدِّينُ حَيًّا فِي هَذِهِ الشُّعُوبِ عَلَى تَفَاوُتٍ عَظِيمٍ بَيْنَ أَهْلِهَا فِي فَهْمِهِ.
(٢) غُلُوُّ الْإِفْرِنْجِ فِي الْإِلْحَادِ وَشُعُورُهُمْ أَخِيرًا بِالْحَاجَةِ إِلَى الدِّينِ:
إِنَّ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي تُبْطِلُ الثِّقَةَ بِرِوَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا الْمُخَالِفَةِ لِلْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ، وَبِعَقَائِدِهِمْ أَيْضًا قَلِيلُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَشَا فِيهِمُ الْكُفْرُ وَالتَّعْطِيلُ، أَوِ الْكُفْرُ بِدَيْنِ الْكَنِيسَةِ خَاصَّةً مِنَ التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ. وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِحَالَةِ فِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ - أَيْ اسْتِحَالَةِ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ إِلَى جَسَدِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ - وَقَدْ كَانُوا غَلَوْا فِي الْإِلْحَادِ عَقِبَ تَمَكُّنِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ، بِقَدْرِ مَا كَانَ مِنْ غُلُوِّ سَيْطَرَةِ الْكَنِيسَةِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَلَّفُوا كَثِيرًا مِنَ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ فِي الطَّعْنِ فِي هَذَا الدِّينِ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَى زُوَّارِ أُورُبَّةَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ أَنَّ أُورُبَّةَ أَصْبَحَتْ مَادِّيَّةً، لَا تَدِينُ بِدِينٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ رُسُومِ النَّصْرَانِيَّةِ يَدِينُ بِهَا الْعَامَّةُ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْمُتَمَتِّعُونَ بِأَوْقَافِ الْكَنَائِسِ وَسُلْطَانِهَا الرُّوحَانِيِّ، وَلَكِنَّ الْفَوْضَى الدِّينِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ مَدِّهَا فِي إِثْرِ حَرْبِ الْمَدِينَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute