للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الْأَشْخَاصِ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ اسْتِعْدَادِ أُمَمِهِمْ وَدَرَجَاتِهَا فِي الْحَضَارَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَظْهَرُ إِلَى عَصْرِنَا هَذَا (يَعْنِي فِي شَخْصِهِ) .

فَبِمِثْلِ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ وَالْآرَاءِ يَدِينُ أَهْلُ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ فِي أُورُبَّةَ لَا بَدِينِ الْكَنِيسَةِ كَمَا يَزْعُمُ دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ (الْمُبَشِّرُونَ) الْكَذَّابُونَ الْخَدَّاعُونَ لِيَغُشُّوا عَوَامَّ الْمُسْلِمِينَ بِعَظَمَةِ الْإِفْرِنْجِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَبِتَسْمِيَتِهِمْ حَضَارَةَ أُورُبَّةَ مَسِيحِيَّةً.

وَقَدْ كَانَ لِلْفَيْلَسُوفِ تُولُسْتُوِي الرُّوسِيِّ الشَّهِيرِ تَأْوِيلٌ لِلْإِنْجِيلِ قَرِيبٌ مِمَّا قُلْنَاهُ فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهِ بِهِدَايَةِ الْإِسْلَامِ، وَخُلَاصَتِهِ أَنَّ إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ حِكَمِهِ وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي كَانَتْ جَوَاهِرَ أُلْقِيَتْ فِي مَزَابِلَ مِنَ الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ،

وَإِنَّهُ هُوَ قَدْ عُنِيَ بِاسْتِخْرَاجِهَا وَتَنْظِيفِهَا مِمَّا عَلَقَ بِهَا، وَشَبَّهَهَا بِتِمْثَالٍ مُكَسَّرٍ مُلْقًى فِيهَا، فَعَثَرَ هُوَ عَلَيْهِ قِطْعَةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى إِذَا تَمَّ وَكَمُلَ، عَلِمَ أَنَّ عَمَلَهُ حَقٌّ صَحِيحٌ، وَأَلَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا كَبِيرًا سَمَّاهُ الْأَنَاجِيلَ، وَسَمَّى مَا اسْتَخْلَصَهُ مِنْهَا الْإِنْجِيلَ الصَّحِيحَ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَلْخِيصُ مُقَدِّمَتِهِ الَّتِي بَيَّنَ فِيهَا مَا حَقَّقَهُ فِي الْمَوْضُوعِ (ص١٣١ و٢٢٦ و٢٥٩ م ٦ مَنَارٌ) .

وَمِمَّا قَالَهُ فِيهَا: " إِنَّ الْقَارِئَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْسَى أَنَّ مِنَ الْخَطَأِ الْفَاحِشِ وَالْكَذِبِ الصُّرَاحِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَنَاجِيلَ الْأَرْبَعَةَ هِيَ كُتُبٌ مُقَدَّسَةٌ فِي جَمِيعِ آيَاتِهَا " وَأَيَّدَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مُسَلَّمٌ عِنْدَهُمْ مِنْ " أَنَّ الْمَسِيحَ لَمْ يُؤَلِّفْ كِتَابًا قَطُّ كَمَا فَعَلَ أَفْلَاطُونُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ، وَأَنَّهُ لَمْ يُلْقِ تَعَالِيمَهُ مِثْلَ سُقْرَاطَ عَلَى رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَإِنَّمَا عَرَضَهَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْجُهَّالِ قَدْ خَشَنَتْ طِبَاعُهُمْ كَانَ يُصَادِفُهُمْ فِي طَرِيقِهِ " أَيْ فَلَمْ يَحْفَظُوهَا وَلَمْ يَكْتُبُوهَا، وَفِي هَذِهِ الْأَنَاجِيلِ نُصُوصٌ صَرِيحَةٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَفْهَمُونَ كُلَّ كَلَامِ الْمَسِيحِ وَلَا سِيَّمَا أَمْثَالُهُ الَّتِي كَانَ يَضْرِبُهَا لَهُمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ تُولُسْتُوِي أَنَّهُ جَاءَ بَعْدَهُ بِزُهَاءِ مِائَةِ عَامٍ رِجَالٌ أَدْرَكُوا مَكَانَةَ كَلِمَاتِهِ فَخَطَرَ فِي بَالِهِمْ أَنْ يُدَوِّنُوهَا بِالْكِتَابَةِ، فَكَانَتْ مُدَوَّنَاتُهُمْ كَثِيرَةً، وَمِنْهَا مَا كَانَ مَحْشُوًّا بِالْخَطَأِ وَالْغَلَطِ، وَأَنَّ الْكَنِيسَةَ اخْتَارَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُلُوفِ الْمُصَنَّفَاتِ مَا رَأَتْهُ أَقْرَبَ إِلَى الْكَمَالِ " وَأَنَّ الْغَلَطَ فِي الْأَنَاجِيلِ الْقَانُونِيَّةِ هُوَ بِقَدْرِ الْغَلَطِ فِي الْأَنَاجِيلِ الْمُهْمَلَةِ لِاعْتِبَارِهَا مَحَلًّا لِلشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَنَاجِيلَ الْمَتْرُوكَةَ تَشْتَمِلُ أَشْيَاءَ جَمِيلَةً، قَدْ تُعَادِلُ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَنَاجِيلُ الرَّسْمِيَّةُ " إِلَخْ وَمِمَّا حَقَّقَهُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ أَنَّ دِينَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْعَقِيدَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَعَقِيدَةِ الْكَنَائِسِ النَّصْرَانِيَّةِ وَأَنَّ بُولُسَ لَمْ يَفْهَمْ دِينَ الْمَسِيحِ أَلْبَتَّةَ.

فَهَذِهِ نَصْرَانِيَّةُ هَذَا الْفَيْلَسُوفِ الْكَبِيرِ، وَتِلْكَ عَقِيدَةُ ذَلِكَ الْعَاهِلِ الْكَبِيرِ، وَمَا أَتْعَبَ الْأَوَّلَ فِي التَّفْكِيرِ، وَالْآخَرَ فِي التَّأْوِيلِ، إِلَّا سُلْطَانُ الدِّينِ الْفِطْرِيِّ

عَلَى النَّفْسِ، وَمُشَاقَّةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>