وَرِجَالُ الدِّينِ يُكَذِّبُونَهُمْ غَالِبًا ; لِأَنَّ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ يُخَالِفُ بَعْضَ تَعَالِيمِ الدِّينِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى يُؤَيِّدُ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْعَقِيدَةِ، وَهُوَ بَقَاءُ النَّفْسِ وَالْحَيَاةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقَدْ بَالَغَ بَعْضُ الْبَاحِثِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِمِصْرَ فِي إِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَتَّى زَعَمَ زَاعِمٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ثُبُوتُ الدِّينِ إِلَّا بِثُبُوتِهَا، قُلْتُ لَهُ مَرَّةً: إِنْ صَحَّ قَوْلُكَ فَالدِّينُ لَمْ يَثْبُتْ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي! ! .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَطْعَنُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْأَرْوَاحِ بِالِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ بَيْنَ مَا يَنْقُلُونَهُ عَنْهَا، وَإِنَّمَا يَتَّجِهُ هَذَا الطَّعْنُ بِأَمْرَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَرْوَاحِ الْمَوْتَى تَعْلَمُ الْحَقَائِقَ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَتَكُونَ مَعْصُومَةً مِنَ الْكَذِبِ وَالْخَطَأِ فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ الْوُسَطَاءَ الَّذِينَ تَتَجَلَّى لَهُمْ. (ثَانِيهِمَا) أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْوُسَطَاءُ يُدْرِكُونَ كُلَّ مَا تُلْقِيهِ إِلَيْهِمُ الْأَرْوَاحُ كَمَا هُوَ لَا يَفُوتُهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ، ثُمَّ يُؤَدُّونَهُ كَمَا سَمِعُوهُ لَا يُخْطِئُونَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَا يَقُومُ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ هَذَا وَلَا ذَاكَ، بَلَى قَرَأْنَا مِمَّا نَقَلُوهُ عَنِ الْأَرْوَاحِ أَنَّهَا عَلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي عَالَمِهَا، وَأَنَّ الدُّنْيَا مِنْهَا لَا تُدْرِكُ مَا تُدْرِكُهُ الْعُلْيَا، وَأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَسْأَلُ عَنْهُ، وَأَنَّهَا لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْلُغَ كُلَّ مَا نَعْلَمُ مِنْهُ، وَأَنَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْذَنُ لَهَا بِتَبْلِيغِهِ، وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ: أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ تَفْتَقِرُ إِلَى تَمْحِيصٍ وَتَحْقِيقٍ لَيْسَ هَذَا الِاسْتِطْرَادُ فِي التَّفْكِيرِ بِمَحَلٍّ لَهُ.
وَأَمَّا الْوَحْيُ، فَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْإِفْرِنْجِ وَأَمْثَالِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِصِحَّتِهِ، وَمِنْهُمُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ لِلْبَشَرِ أَرْوَاحًا مُسْتَقِلَّةً مِنْ غَيْرِ عَالَمِ الْمَادَّةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَحْيَ حَالَةٌ مِنْ حَالَاتِ النَّفْسِ تَسْتَحْوِذُ عَلَيْهَا فَتَفِيضُ عَلَيْهَا بَعْضُ الْمَعَارِفِ، وَتَنْطِقُهَا بِمَا تَكُونُ مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنَ الْحَقَائِقِ، وَلَكِنَّ صَاحِبَ هَذِهِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ مَعْصُومًا مِنَ الْخَطَأِ فِيمَا يَنْبُعُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ كُلِّهَا، وَلَا مِنَ التَّعَالِيمِ الْعَمَلِيَّةِ وَنَفْعِهَا. وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْوَحْيِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُزِيلِ لِشُبُهاتِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ، وَسَنَعُودُ إِلَيْهِ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
(٦) آرَاءُ الْإِفْرِنْجِ وَأَمْثَالِهِمْ فِي الدِّينِ وَالتَّدَيُّنِ:
لِلْمُتَدَيِّنِينَ مِنَ الْإِفْرِنْجِ وَمَنْ عَلَى شَاكِلَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ وَالْفَلْسَفَةِ وَالسِّيَاسَةِ كَالْيَابَانِيِّينَ وَالْهِنْدُوسِ وَغَيْرِهِمْ آرَاءٌ فِي الدِّينِ، تَصْرِفُ أَكْثَرَهُمْ عَنِ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ فِيهِ بِمِثْلِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ الْعِلْمِيَّةِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ اسْتِبَانَةُ الصَّحِيحِ الرَّاجِحِ أَوِ الْأَرْجَحِ لِأَجْلِ اعْتِمَادِهِ وَالْأَخْذِ بِهِ، فَأَكْثَرُهُمْ يَرَى أَنَّ الدِّينَ تَعَالِيمُ أَدَبِيَّةٌ تَهْذِيبِيَّةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَرَابِطَةٌ
اجْتِمَاعِيَّةٌ سِيَاسِيَّةٌ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، وَأَنَّ فَائِدَتَهُ مِنَ النَّاحِيَتَيْنِ تَكُونُ بِقَدْرِ حُسْنِ تَلْقِينِهِ وَتَعْلِيمِهِ وَالْبَرَاعَةِ فِي تَرْبِيَةِ النَّشْءِ عَلَيْهِ - لَا بِقَدْرِ صِحَّةِ عَقَائِدِهِ وَمَصَادِرِهِ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ - وَجَوْدَةِ آدَابِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي نَفْسِهَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى غَيْرِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute