فَهُمْ لَا يَبْحَثُونَ عَنْ أَقْوَى الْأَدْيَانِ حُجَجًا، وَأَقْوَمِهَا مَنْهَجًا لِيَعْتَصِمُوا بِحَبْلِهِ، وَيَدْعُوا قَوْمَهُمْ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مُحَاوَلَةَ تَحْوِيلِ الشَّعْبِ عَنْ دِينٍ وِرَاثِيٍّ تَلَقَّاهُ بِالْإِذْعَانِ وَالْقَبُولِ إِلَى دِينٍ آخَرَ أَصَحَّ بُرْهَانًا مِنْهُ لَا يَخْلُو مِنْ مَضَارَّ، مِنْهَا الْخِلَافُ وَالشِّقَاقُ فِي الشَّعْبِ وَضَعْفُ ارْتِبَاطِهِ بِأُمَّتِهِ وَدَوْلَتِهِ، فَهُمْ يَجْتَهِدُونَ فِي صِيَانَةِ عَقَائِدِ شَعْبِهِمْ، وَدَفْعِ الِاعْتِرَاضَاتِ الَّتِي تَرِدُ عَلَيْهَا لِأَجْلِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْأَحْرَارُ الْمُسْتَقِلُّونَ الَّذِينَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فَيَرَوْنَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْعَقَائِدِ مَسْأَلَةٌ وِجْدَانِيَّةٌ شَخْصِيَّةٌ لَا يُثْبِتُهَا الْعِلْمُ الْعَصْرِيُّ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، فَالصَّوَابُ لِمَنْ قَامَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى حَقِّيَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا أَنْ يَدِينَ اللهَ تَعَالَى بِهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَعْرِضُ لِغَيْرِهِ بِدَعْوَةٍ إِلَيْهِ، وَلَا تَخْطِئَةٍ لَهُ فِيمَا يَدِينُ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْحُرِّيَّةَ الْمُشْتَرَكَةَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْحُرِّيَّةَ لَا تَكَادُ تَخْلُصُ مِنْ دَخَائِلَ التَّقَالِيدِ الدِّينِيَّةِ، وَتَسْلَمُ مِنَ الشَّوَائِبِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ إِلَّا لِلْأَفْرَادِ مِنْ كُلِّ شَعْبٍ، وَشَرْحُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ يَخْرُجُ بِنَا عَنِ الْغَرَضِ مِنْ هَذَا الِاسْتِطْرَادِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَقْتَصِرَ مِنْهُ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بِالْعِبْرَةِ مِنْ سِيَاقِ مَوْضُوعِنَا فِي التَّفْسِيرِ، وَهُوَ أَنَّ عَلَاقَةَ الدِّينِ بِالسِّيَاسَةِ وَالِاجْتِمَاعِ وَقُوَّةِ الشَّعْبِ الْأَدَبِيَّةِ وَمُحَافَظَتِهِ عَلَى مُقَوِّمَاتِهِ وَمُشَخَّصَاتِهِ الْمِلِّيَّةِ تَحُولُ دُونَ الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ أَقْوَمِ الْأَدْيَانِ وَأَحَقِّهَا بِالتَّقْدِيمِ وَالْإِيثَارِ لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ. وَيُسْتَعَانُ عَلَى هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ بِنِظَامِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ مِنَ النِّظَامِ، وَلَكِنَّ أَطْوَارَ الِاجْتِمَاعِ سَتَضْطَرُّهُمْ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ وَاخْتِيَارِ الْأَصْلَحِ بِذَاتِهِ.
وَلَا بُدَّ لَنَا مَعَ هَذَا التَّذْكِيرِ بِمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلُ، مِنْ أَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ دِينًا
تَتَحَقَّقُ بِهِ هِدَايَةُ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْدَرُهُ أَعْلَى مِنْ جَمِيعِ مَصَادِرِ الْعِلْمِ الْكَسْبِيِّ، لِتُذْعِنَ لَهُ النَّفْسُ، وَتَخْضَعَ الْإِرَادَةُ، وَقَدْ وَضَعَ بَعْضُ حُكَمَاءِ أُورُبَّةَ قَوَاعِدَ لِدِينٍ عِلْمِيٍّ عَقْلِيٍّ اسْتَحْسَنُوهَا وَلَمْ يُذْعِنُوا لَهَا ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُذِعِنُ إِلَّا لِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَعْلَى مِنْهُ وَلَهُ السُّلْطَانُ وَالْقَهْرُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يُدْرِكُهُ بِكَسْبِهِ فَهُوَ يَرَاهُ دُونَهُ وَمَقْهُورًا لِإِرَادَتِهِ ; لِذَلِكَ لَا يَخْضَعُ الْبَشَرُ لِكُلِّ مَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ صَوَابٌ وَحَقٌّ فِي نَفْسِهِ، إِلَّا إِذَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْقَطْعِ مِنْ سِيرَةِ أَفْرَادِهِمْ وَجَمَاعَاتِهِمْ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا، وَالِاخْتِلَافُ مِنْ طَبْعِهَا، فَالدِّينُ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ لِإِصْلَاحِ الْبَشَرِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِوَحْيٍ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَلَا يَثْبُتُ هَذَا فِي عَصْرِنَا هَذَا إِلَّا بِالْإِسْلَامِ.
(٧) مَبْلَغُ عِلْمِ الْإِفْرِنْجِ بِالْإِسْلَامِ وَحُكْمِهِمْ عَلَيْهِ:
بَزَغَتْ شَمْسُ الْإِسْلَامِ فِي عَصْرٍ كَانَتْ فِيهِ جَمِيعُ شُعُوبِ الْأَرْضِ مُتَسَكِّعَةً فِي دَيَاجِيرِ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ وَالْإِسْرَافِ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَكَانَ آخِرَ عَهْدٍ لِأُورُبَّةَ بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالْحَضَارَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute