عَهْدُ الرُّومِ (الرُّومَانَ) الَّذِينَ فَتَحُوا أَعْظَمَ مَمَالِكِ الشَّرْقِ الْمُصَاقِبَةِ لِأُورُبَّةَ، وَكَانُوا قَوْمًا وَثَنِيِّينَ، ثُمَّ سَطَعَ عَلَيْهِمْ بَرِيقٌ مِنْ نُورِ الْإِنْجِيلِ، وَانْتَشَرَتْ فِيهِمُ النَّصْرَانِيَّةُ دِيَانَةُ الزُّهْدِ وَالْإِيثَارِ وَالسَّلَامِ، وَلَكِنْ كَانَ إِفْسَادُهُمْ لَهَا أَقْوَى مِنْ إِصْلَاحِهَا لَهُمْ، فَأَحَالُوا تَوْحِيدَهَا وَثَنِيَّةً. وَحَوَّلُوا سِلْمَهَا حَرْبًا، وَبَدَّلُوا زُهْدَهَا إِسْرَافًا وَطَمَعًا، وَطَهَارَتَهَا فُحْشًا وَدَنَسًا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ الَّذِي كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ وَهُوَ الْمُصْلِحُ الْأَعْظَمُ، الَّذِي بَشَّرَ بِهِ الْمَسِيحُ وَسَمَّاهُ الْفَارْقِلِيطَ رُوْحَ الْحَقِّ، وَوَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَلِّمُهُمْ كُلَّ شَيْءٍ، لَمْ يَلْبَثِ الْحُفَاةُ الْعُرَاةُ الْبَائِسُونَ مِنْ أَتْبَاعِهِ أَنْ دَكُّوا لَهُمْ مَا بَنَوْهُ مِنَ الْمَعَاقِلِ وَالْحُصُونِ فِي الشَّرْقِ، وَثَلُّوا لَهُمْ عُرُوشَ مَا اسْتَعْمَرُوا مِنَ الْمَمَالِكِ وَطَرَدُوهُمْ مِنْ سُورِيَةَ وَمِصْرَ وَأَفْرِيقِيَّةَ، فَأَرَزُوا وَانْكَمَشُوا إِلَى أَوْطَانِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ فِي أُورُبَّةَ فَصَارَ الْعَرَبُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَغْزُونَهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي أُورُبَّةَ نَفْسِهَا وَتَلَاهُمُ التُّرْكُ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَلِكَ، فَصَبَرُوا إِلَى أَنْ أَمْكَنَهُمْ جَمْعَ كَلِمَةِ دُوَلِ أُورُبَّةَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَمَالِكِ الشَّرْقِيَّةِ بِالدَّعَايَةِ إِلَى إِنْقَاذِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَهْدِ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْهُمْ،
فَكَانَتِ الْحُرُوبُ الصَّلِيبِيَّةُ الْمَشْهُورَةُ فِي التَّارِيخِ بِفَظَائِعِهَا وَفُجُورِهَا وَمَفَاسِدِهَا وَفَوَاحِشِهَا وَمَطَامِعِهَا، الَّتِي اقْتُرِفَتْ بِاسْمِ الْمَسِيحِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْبَرِيئَةِ مِنْهُ وَمِنْ أَهْلِهَا.
كَانَ مِنْ تَمْهِيدِ رِجَالِ الْكَنِيسَةِ دُعَاةِ هَذِهِ الْحَرْبِ وَمُوقِدِي نَارِهَا أَنْ أَلَّفُوا كُتُبًا وَرَسَائِلَ كَثِيرَةً، وَزَوَّرُوا خُطَبًا بَلِيغَةً، وَنَظَمُوا أَنَاشِيدَ وَأَغَانِيَ مُهَيِّجَةً كُلَّهَا فِي الطَّعْنِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَتَشْوِيهِ سِيرَةِ الْمُسْلِمِينَ، لَمْ يُعْرَفْ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ، وَتَشْوِيهِ الْمَحَاسِنِ، وَمُحَاوَلَةِ جَعْلِ النُّورِ ظَلَامًا، وَالْحَقِّ بَاطِلًا، وَالْفَضِيلَةِ رَذِيلَةً، حَتَّى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اطَّلَعُوا عَلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَكْتَوْبَاتِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُرُوبِ بِقَرْنٍ، أَدْهَشَهُمُ الْعَجَبُ مِنْ تِلْكَ الْأَبَاطِيلِ الْمُخْتَرَعَةِ الَّتِي لَمْ تَخْطُرْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى بَالٍ، وَلَمْ تَلُحْ لَهَا صُورَةٌ فِي خَيَالٍ، لِمُبَايَنَتِهَا لِلْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ وَالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَالسِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَالْفُتُوحَاتِ الْعَرَبِيَّةِ، رَحْمَةً وَعَدْلًا، وَكَرَمًا وَفَضْلًا، وَشَرَفًا وَنُبْلًا، وَكَذَا مَا دُوْنَهَا مِنَ الْحُرُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَمِنْ غَرَائِبِ ذَلِكَ الْبُهْتَانِ الْمُشَوَّهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا بَيْنَ دِينِ التَّوْحِيدِ الْمُطْلَقِ الْمُجَرَّدِ مِنْ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْوَثَنِيَّةِ دِينَ وَثَنِيَّةٍ وَعِبَادَةِ أَصْنَامٍ - وَأَنَّهُمُ اخْتَلَقُوا لَهُ " ثَالُوثًا " وَأَصْنَامًا وَزَعَمُوا أَنَّ " مُحَمَّدًا نَفْسَهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ادَّعَى الْأُلُوهِيَّةَ، وَاخْتَرَعُوا لَهُ مِنَ الْمَطَاعِنِ الْفَظِيعَةِ مَا تَعْجَزُ غَيْرُ تِلْكَ الْعُقُولِ الْمُظْلِمَةِ الْقَذِرَةِ عَنْ تَخَيُّلِهِ، وَيَتَنَزَّهُ كُلُّ ذِي وِجْدَانٍ بِشْرِيٍّ سَلِيمٍ عَنِ افْتِرَائِهِ، وَيَسْتَحِي غَيْرُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنَ النُّطْقِ بِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ إِلْمَامٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ فِي (كِتَابِ الْإِسْلَامُ. خَوَاطِرُ وَسَوَانِحُ) لِلْمُسْتَشْرِقِ الْفَرَنْسِيِّ (الْكُونْتِ هِنَرِي دِي كَاسْتِرِي) وَتَرْجَمَتُهُ الْعَرَبِيَّةُ لِأَحْمَد فَتْحِي بَاشَا زُغْلُول، وَحَسْبُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنْهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute