الْحَرْبِ الْكُبْرَى، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ أَغْنِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْنِيَاءِ السُّفَهَاءِ، وَلَا مِنْ أُمَرَائِهِمُ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى أَنْ لَاحَ فِي مَهْدِ الْإِسْلَامِ نُورٌ جَدِيدٌ لِإِحْيَاءِ هَذَا الدِّينِ هُوَ الْآنَ مَحْمَلُ الرَّجَاءِ لِجَمِيعِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْمُصْلِحِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٣٨: ٨٨) .
(تَفْسِيرُ بَقِيَّةِ الْآيَاتِ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ هَذَا اسْتِئْنَافٌ بَيْنَ مَا فِي قَوْلِهِ: يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ مِنَ الْإِجْمَالِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطْلَقُوا لَقَبَ ابْنِ اللهِ عَلَى عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ إِطْلَاقًا مَجَازِيًّا، كَمَا أُطْلِقَ فِي كُتُبِهِمْ، وَلَمْ يُضَاهِئُوا بِهِ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ لَمَا كَانُوا بِهِ كُفَّارًا، وَإِنَّمَا كَانُوا كُفَّارًا بِهَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي أُشِيرَ إِلَيْهَا بِهَذِهِ الْمُضَاهَأَةِ وَبَيَّنَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
الْأَحْبَارُ: جَمْعُ حَبْرٍ - بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا - وَهُوَ الْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالرُّهْبَانُ: جَمْعُ رَاهِبٍ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْخَائِفُ، وَهُوَ عِنْدَ النَّصَارَى الْمُتَبَتِّلُ الْمُنْقَطِعُ لِلْعِبَادَةِ، وَالرَّهْبَانِيَّةُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ بِدْعَةٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ (٥٧: ٢٧) وَكَانَتْ نِيَّتُهُمْ فِيهَا صَالِحَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا تَأْثِيرُ مَوَاعِظِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الزُّهْدِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا، ثُمَّ صَارَ أَكْثَرُ مُنْتَحِلِيهَا مِنَ الْجَاهِلِينَ وَالْكُسَالَى فَكَانَتْ عِبَادَتُهُمْ صُورِيَّةً أَعَقَبَتْهُمْ رِيَاءً وَعُجْبًا وَغُرُورًا بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِتَعْظِيمِ الْعَامَّةِ لَهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَلَمَّا صَارَتِ النَّصْرَانِيَّةُ ذَاتَ تَقَالِيدَ مُنَظَّمَةٍ فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ وَضَعَ رُؤَسَاؤُهُمْ نُظُمًا وَقَوَانِينَ لِلرَّهْبَانِيَّةِ وَلِمَعِيشَتِهِمْ فِي الْأَدْيَارِ. وَصَارَ لَهَا عِنْدَهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ يَشْكُوا بَعْضُ أَحْرَارِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِهِمْ فِيهَا. فَكَانَ ذَلِكَ مُصَدِّقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سَلَفِهِمُ الْمُخْلِصِينَ: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَفِي
خَلَفِهِمُ الْمُرَائِينَ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٥٧: ٢٧) وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ تَحْرِيرِ الْقُرْآنِ لِلْحَقَائِقِ فِي الْمَسَائِلِ الْكَبِيرَةِ بِعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ هِيَ الْحَقُّ الْمُفِيدُ فِيهَا. وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَنِ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ لِمَا سَنُبَيِّنُهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحَدِيدِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُحْيِيَنَا وَيُوَفِّقَنَا لِتَفْسِيرِهَا.
وَالْمَعْنَى: اتَّخَذَ كُلٌّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى رُؤَسَاءَ الدِّينِ فِيهِمْ أَرْبَابًا، فَالْيَهُودُ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَهُمْ عُلَمَاءُ الدِّينِ فِيهِمْ أَرْبَابًا، بِمَا أَعْطَوْهُمْ مِنْ حَقِّ التَّشْرِيعِ فِيهِمْ وَأَطَاعُوهُمْ فِيهِ، وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا رُهْبَانَهُمْ أَيْ عُبَّادَهُمُ الَّذِينَ يَخْضَعُ الْعَوَامُّ لَهُمْ أَرْبَابًا كَذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ جُمْلَةَ رِجَالِ الدِّينِ فِي الْفَرِيقَيْنِ أَيْ: مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute