عَزَّ وَجَلَّ لَا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (٥٣: ٣، ٤) وَأَخْبَرَهُمْ بِأُمُورٍ آتِيَةٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا صَرِيحَةٍ بَعْضُهَا فِي الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرُهَا غَلَبُ الرُّومِ الْفُرْسَ فِي مَدَى بِضْعِ سِنِينَ، وَبَعْضُهَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَمِنَ الْمُتَوَاتِرِ مِنْهَا قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: " تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ " وَفِي رِوَايَاتٍ بِالْغِيبَةِ، أَيْ قَالَ هَذَا لَهُ وَلِغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْحَسَنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " وَإِخْبَارُهُ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ بِمَوْتِهِ، وَبِأَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُ بِهِ، وَإِخْبَارُهُ بِمَوْتِ النَّجَاشِيِّ يَوْمَ مَوْتِهِ وَصَلَاتُهُ عَلَيْهِ إِلَخْ إِلَخْ. وَلَا يَزَالُ الزَّمَانُ يُظْهِرُ صِدْقَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي وَقْتِهِ - وَقَدْ مَجَّدَ الْمَسِيحَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا بِنَفْيِ طَعْنِ الْيَهُودِ فِيهِ وَفِي أُمِّهِ، وَإِثْبَاتِ كَوْنِهِ وُلِدَ طَاهِرًا مِنَ الدَّنَسِ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَكَوْنِهِ مِنْ رُوحِ اللهِ وَمُؤَيَّدًا بِآيَاتِ اللهِ، وَبَيَّنَّا كُلَّ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْمَسِيحُ بِاسْمِهِ الدَّالِّ عَلَى الْحَمْدِ الْكَثِيرِ (أَحْمَدَ) وَمِثْلُهُ مُحَمَّدٌ وَهُوَ فِي نُسَخِ الْإِنْجِيلِ الْيُونَانِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ الْقَدِيمَةِ الْبَارْقِلِيطُ، ثُمَّ غَيَّرُوهُ فِي التَّرَاجِمِ الْأَخِيرَةِ فَسَمَّوْهُ الْعُزَّى كَمَا فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمِيرَ لِدِينِ الْحَقِّ الَّذِي أُرْسِلَ بِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْلِي هَذَا الدِّينَ، وَيَرْفَعُ شَأْنَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ وَالْهِدَايَةِ وَالْعِرْفَانِ وَالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَكَذَا السِّيَادَةُ وَالسُّلْطَانُ (كَمَا قُلْنَا آنِفًا) وَلَمْ يَكُنْ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ مِثْلُ هَذَا التَّأْثِيرِ الرُّوحِيِّ وَالْعَقْلِيِّ وَالْمَادِّيِّ وَالِاجْتِمَاعِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ إِلَّا لِلْإِسْلَامِ وَحْدَهُ.
لَا نُنْكِرُ أَنَّ جَمِيعَ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ صَلَحَتْ حَالُهُمْ بِاهْتِدَاءِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِنَبِيِّهِمْ مُدَّةَ اهْتِدَائِهِمْ بِهِ، وَلَكِنَّ التَّارِيخَ لَمْ يَرْوِ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لِدِينٍ مِنَ الْأَدْيَانِ كُلُّ هَذِهِ الْفَوَائِدِ بِتَأْثِيرِهِ فِيهِمْ.
أَمَّا ظُهُورُ الْإِسْلَامِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ عَاقِلَانِ مُسْتَقِلَّانِ، عَرَفَاهُ وَعَرَفَا غَيْرَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا السِّيَاقِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا مِنْ كَلَامِ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْمُسْتَقِلِّينَ، وَأَشَرْنَا إِلَى غَيْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْهَا مِمَّا يُمْكِنُ لِمُقْتَنِي مُجَلَّدَاتِ مَجَلَّةِ الْمَنَارِ أَنْ يُرَاجِعُوهُ فِي أَكْثَرِهَا بِالِاسْتِعَانَةِ بِالْفِهْرِسِ الْعَامِّ، وَلَا سِيَّمَا لَفْظُ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا ظُهُورُهُ عَلَيْهَا بِالْعِلْمِ وَالْعُمْرَانِ، وَالسِّيَادَةِ وَالسُّلْطَانِ، فَالَّذِي يَتَرَاءَى لِلنَّاسِ بَادِيَ الرَّأْيِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِمَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ وَالْيَابَانُ وَضَعْفِ مَا بَقِيَ مِنْ دُوَلِ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ وَجْهُهُ فِي دُوَلِ الْعَرَبِ الْأُولَى وَكَذَا دَوْلَةُ التُّرْكِ فِي أَوَّلِ عَهْدِهَا.
وَنُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْإِفْرِنْجِ وَالْيَابَانُ وَشُعُوبُهُمَا لَيْسَ مِنْ تَأْثِيرِ أَدْيَانِهِمَا فِي تَعَالِيمِهَا، وَلَا فِي الْعَمَلِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَظَهَرَ عَقِبَ وُجُودِ الدِّينِ فِيهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَقَدْ نَقَلْنَا فِي هَذَا السِّيَاقِ عَنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرِنْجِ الْأَحْرَارِ الْمُسْتَقِلِّينَ أَنَّ مَدَنِيَّتَهُمُ الْحَاضِرَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute