للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

جَعْلُ الطَّرِيقِ بِهَيْئَةِ سَلَالِمَ تَارَةً تَتَصَعَّدُ وَأُخْرَى تَنْحَدِرُ، عَلَى أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ الْعُرُوجُ صَعْبًا، فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الصَّاعِدِينَ امْتَقَعَ لَوْنُهُ وَخَارَتْ قُوَاهُ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّنَا تَدَارَكْنَاهُ بِجُرْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ شَرِبَهَا وَصَبَابَةٍ مِنْهُ سَكَبْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَفَاقَ لَبَاغَتَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَلِهَذَا نَنْصَحُ لِلزَّائِرِينَ بِأَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنَ الْمَاءِ لِيَقُوا أَنْفُسَهُمْ شَرَّ الْعَطَبِ.

وَلَمَّا بَلَغْنَا الْغَارَ وَجَدْنَاهُ صَخْرَةً مُحَوَّفَةً فِي قُنَّةِ الْجَبَلِ أَشْبَهَ بِسَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ ظَهْرُهَا إِلَى أَعْلَى، وَلَهَا فَتْحَتَانِ فِي مُقَدِّمِهَا وَاحِدَةٌ وَفِي مُؤَخِّرِهَا أُخْرَى، وَقَدْ دَخَلْتُ مِنَ الْغَرْبِيَّةِ زَاحِفًا عَلَى بَطْنِي مَادًّا ذِرَاعِي إِلَى الْأَمَامِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي

تَتَّسِعُ عَنِ الْأُولَى قَلِيلًا بَعْدَ أَنْ دَعَوْتُ فِي الْغَارِ وَصَلَّيْتُ، وَالْفَتْحَةُ الصَّغِيرَةُ عَرْضُهَا ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ فِي شِبْرَيْنِ تَقْرِيبًا وَهِيَ الْفُتْحَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْغَرْبِ. أَمَّا الْفُتْحَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي الشَّرْقِ وَيُقَالُ: إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ؛ لِيَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ الدُّخُولُ إِلَى الْغَارِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ، وَالْغَارُ مِنَ الْجَبَلِ فِي النَّاحِيَةِ الْمُوَالِيَةِ لِمَكَّةَ، وَقَدْ وَجَدْنَا بِجَانِبِهِ رَجُلًا عَرَبِيًّا يَتَنَاوَلُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الزَّائِرِينَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْغَارِ إِذْ تُوجَدُ هُنَاكَ صُخُورٌ تُشْبِهُ صَخْرَتَهُ وَلَكِنَّهَا لَا تُمَاثِلُهَا تَمَامًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا رِفْعَتْ فِي كِتَابِ مِرْآةِ الْحَرَمَيْنِ.

وَقَدْ وَضَعَ فِي الْكِتَابِ صُورَةَ الْغَارِ وَصُورَةَ الْجَبَلِ بِرَسْمِ آلَةِ الِانْعِكَاسِ الشَّمْسِيِّ، فَاسْتَفَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْغَارَ ضَيِّقٌ وَوَعْرُ الْمُرْتَقَى وَضَيِّقُ الْمَدْخَلِ. فَعَلِمُنَا قَدْرَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتِ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَصَاحَبَهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِيهِ، وَسَبَبُ إِشْفَاقِ الصِّدِّيقِ وَخَوْفِهِ أَنْ يَرَاهُمَا الْمُشْرِكُونَ بِأَدْنَى الْتِفَاتٍ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ أَبْصَارَهُمْ.

وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ وَدُخُولِ الْغَارِ، فِيهَا كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقٌ يَتَسَاهَلُونَ بِقَبُولِ مِثْلِهَا فِي الْمَنَاقِبِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ بِطُرُقٍ مُتَّصِلَةٍ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَا فِي الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِالْأَوْلَى.

قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنَ الْفَتْحِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَوَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا (٨: ٣٠) الْآيَةَ. قَالَ تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ - يُرِيدُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ - وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطَلَعَ اللهُ نَبِيَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَخَرَجَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَعْنِي: يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَقُومَ فَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَرَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>