للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاوِيَةَ فَلَهُ شُبْهَةٌ لُغَوِيَّةٌ، وَهُوَ إِسْنَادُ الشَّيْءِ إِلَى سَبَبِهِ مَجَازًا، وَمِنْهُ إِخْرَاجُ الْمُشْرِكِينَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَكَّةَ إِنَّمَا أُطْلَقَ عَلَى سَبَبِهِ وَهُوَ الِاضْطِهَادُ وَالْإِيذَاءُ الَّذِي نَالُوْهُمْ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُحْمَلُ اللَّفْظُ عَلَى الْمَجَازِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمَانِعِ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَلَمَّا بَلَغَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ قَوْلَهُ رَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ هُوَ الَّذِي قَتَلَ عَمَّهُ حَمْزَةَ وَابْنَ عَمِّهِ جَعْفَرَ أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَسَائِرِ الْغَزَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُمْ إِلَى الْقِتَالِ.

ثُمَّ إِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّ مَنْ يَخَافُ مِنْ وِشَايَةِ آخَرَ عَلَيْهِ لَا يُخْبِرُهُ بِسِرِّهِ، فَكَيْفَ أَمِنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَبَا بَكْرٍ عَلَى سِرِّهِ، وَرَضِيَ أَنْ يُعْلِمَ بِذَلِكَ جَمِيعَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَأَنْ يَتَعَاهَدَهُمَا وَلَدُهُ وَعَتِيقُهُ فِي الْغَارِ بِالْغِذَاءِ وَبِالْأَنْبَاءِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِئْجَارَ الدَّلِيلِ الَّذِي يَرْحَلُ بِهِمَا؟ .

ثُمَّ أَقُولُ زِيَادَةً فِي فَضِيحَةِ هَؤُلَاءِ الْمُخَرِّفِينَ الْمُحَرِّفِينَ: (أَوَّلًا) إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِي صُحْبَةِ الصِّدِّيقِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي الْغَارِ، وَيَلْزَمُ مِنْهُ لَا فَضِيلَةَ فِي صُحْبَتِهِ، وَلَا فِي صُحْبَةِ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ فِي غَيْرِ الْغَارِ مِنْ أَزْمِنَةِ رِسَالَتِهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْأَوْلَى؛ إِذْ تَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الصُّحْبَةَ تَكُونُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ وَبَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ أَيْضًا. فَإِذَا كُنْتُمْ تَلْتَزِمُونَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُكُمْ خِزْيَانِ لَا مَفَرَّ لَكُمْ مِنْهُمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّ صُحْبَةَ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَعْلَى اللهُ قَدْرَهُ، وَرَفَعَ ذِكْرَهُ، وَصُحْبَةُ الْكَافِرِ أَوِ الْحِمَارِ سَوَاءٌ (وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى مِنْ حِكَايَةِ هَذَا الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ حَاكِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِكَافِرٍ) ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تُسَمَّى صُحْبَةٌ فِي اللُّغَةِ وَالْعِبْرَةُ عِنْدَكُمْ بِالتَّسْمِيَةِ دُونَ مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ أَنَّ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ، وَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ، وَمَا لَا شَأْنَ لَهُ عِنْدَكُمْ فِي كَوْنِهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا أَوْ فَضِيلَةً أَوْ رَذِيلَةً. وَمَا قُلْتُمُوهُ فِي الصُّحْبَةِ يَجْرِي مَثَلُهُ فِي الْهِجْرَةِ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْوَاقِعِ أَنَّ الْهِجْرَةَ قَدْ تَكُونُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ أَوِ امْرَأَةٍ يُرِيدُ الْمُهَاجِرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. وَإِذْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى هِجْرَةً، فَالْمُهَاجِرُونَ عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ لَهُمْ، وَلَا أَجْرَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى خِلَافًا لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ.

ثَانِيهِمَا: أَنَّ الْإِيمَانَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعِبَادَةَ الْخَالِصَةَ لَهُ لَا يُعَدَّانِ عِنْدَكُمْ مِنَ الْفَضَائِلِ؛ لِأَنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي الِاسْمِ مَعَ الْإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَعِبَادَةِ الشَّيْطَانِ وَالْأَوْثَانِ فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ (٤: ٥١) الْآيَةَ. وَقَالَ: بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٣٤: ٤١) وَقَالَ: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ (٣٦: ٦٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>