للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى افْتِتَانَ النَّاسِ بِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ مِنْ عِظَمِ أَمْرِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ، وَإِزَالَةُ شُبَهِ الْفَاتِنِينَ وَالْمَفْتُونِينَ، وَإِقَامَةُ الْحُجَجِ عَلَى الْمُشَاغِبِينَ، وَحِكَمُ التَّحْوِيلِ وَفَوَائِدُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَمِنْهَا إِتْمَامُ النِّعْمَةِ، وَالْبِشَارَةُ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مَكَّةَ، وَكَوْنُ ذَلِكَ طُرُقًا لِلْهِدَايَةِ، لِمَا فِي الْفِتَنِ مِنَ التَّمْحِيصِ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ مِنَ الْمُسْلِمِ الْمُنَافِقِ، فَهِيَ تُظْهِرُ الثَّابِتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُطَمْئِنَ بِهِ، وَتَفْضَحُ الْمُنَافِقَ الْمُرَائِي فِيهِ بِمَا تُظْهِرُ مِنْ زِلْزَالِهِ وَاضْطِرَابِهِ فِيمَا لَدَيْهِ، أَوِ انْقِلَابِهِ نَاكِصًا عَلَى عَقِبَيْهِ، ثُمَّ شَبَّهَ هَذِهِ النِّعْمَةَ التَّامَّةَ بِالنِّعْمَةِ الْكُبْرَى وَهِيَ إِرْسَالُ الرَّسُولِ فِيهِمْ، يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ التَّثْبِيتِ فِي مُقَاوَمَةِ الْفِتْنَةِ، وَتَأْكِيدِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ مَا يَلِيقُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ. وَقَفَّى ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ ; لِلْإِيذَانِ بِأَنَّ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ الَّذِي صَوَّرَهُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ بِصُورَةِ النِّقْمَةِ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَجَلُّ مِنَّةٍ وَأَكْبَرُ نِعْمَةٍ.

لَا جَرَمَ أَنَّ تِلْكَ النِّعَمَ الَّتِي يَجِبُ ذِكْرُهَا وَشُكْرُهَا لِلْمُنْعِمِ جَلَّ شَأْنُهُ كَانَتْ تُقْرَنُ بِضُرُوبٍ مِنَ الْبَلَاءِ وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْمَصَائِبِ، أَكْبَرُهَا مَا يُلَاقِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ مِنْ مُقَاوَمَةِ الْبَاطِلِ وَأَحْزَابِهِ، وَأَصْغُرُهَا مَا لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ فِي مَالِهِ وَأَهْلِهِ وَأَحْبَابِهِ، أَلَيْسَ مِنَ النَّسَبِ الْقَرِيبِ بَيْنَ الْكَلَامِ وَمِنْ كَمَالِ الْإِرْشَادِ فِي هَذَا الْمَقَامِ، أَنْ يَرِدَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالشُّكْرِ أَمْرٌ آخَرُ بِالصَّبْرِ، وَأَنْ يَعِدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَزَاءِ عَلَى هَذَا كَمَا وَعَدَهُمْ بِالْجَزَاءِ عَلَى ذَاكَ؟ بَلَى إِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، مُتَمِّمَةٌ لِلْإِرْشَادِ فِيهَا، وَقَدْ هَدَى سُبْحَانَهُ بِلُطْفِهِ إِلَى عِلَاجِ الدَّاءِ قَبْلَ بَيَانِهِ، فَأَمَرَ بِالِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ الْمُؤْمِنُونَ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَوَعَدَ عَلَى ذَلِكَ بِمَعُونَتِهِ الْإِلَهِيَّةِ، ثُمَّ أَشْعَرَهُمْ بِمَا يُلَاقُونَهُ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ وَالْمُدَافَعَةِ عَنْهُ وَعَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَأْمُرُهُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، لَا أَنَّ الْآيَةَ فِي الِانْقِطَاعِ إِلَى الْعِبَادَةِ وَالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ مُطْلَقًا بِحَيْثُ يَكُونُ الْقَاعِدُ عَنِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، أَوِ السَّعْيِ لِعِيَالِهِ - اعْتِكَافًا فِي مَسْجِدٍ أَوِ انْزِوَاءً فِي خَلْوَةٍ - عَامِلًا بِهَا.

كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، وَكَانَتِ الْأُمَمُ كُلُّهَا مُنَاوِئَةً لَهُمْ، فَالْمُشْرِكُونَ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَمَا فَتِئُوا يُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُمْ، ثُمَّ كَانُوا يُلَاقُونَ فِي مُهَاجِرِهِمْ مَا يُلَاقُونَ مِنْ عَدَاوَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمَكْرِهِمْ، وَمِنْ مُرَاوَغَةِ الْمُنَافِقِينَ وَكَيْدِهِمْ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَسْتَعِينُوا فِي مُقَاوَمَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَفِي

سَائِرِ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الْمَصَائِبِ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ. أَمَّا الصَّبْرُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ سَبْعِينَ مَرَّةً وَلَمْ تُذْكَرْ فَضِيلَةٌ أُخْرَى فِيهِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ أَمْرِهِ، وَقَدْ جُعِلَ التَّوَاصِي بِهِ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ مَقْرُونًا بِالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ ; إِذْ لَا بُدَّ لِلدَّاعِي إِلَى الْحَقِّ مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا مَلَكَةُ الثَّبَاتِ وَالِاحْتِمَالِ الَّتِي تُهَوِّنُ عَلَى صَاحِبِهَا كُلَّ مَا يُلَاقِيهِ فِي سَبِيلِ تَأْيِيدِ الْحَقِّ وَنَصْرِ الْفَضِيلَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>