فَضِيلَةٌ هِيَ أَمُّ الْفَضَائِلِ الَّتِي تُرَبِّي مَلَكَاتِ الْخَيْرِ فِي النَّفْسِ، فَمَا مِنْ فَضِيلَةٍ إِلَّا وَهِيَ مُحْتَاجَةٌ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ الصَّبْرُ فِي ثَبَاتِ الْإِنْسَانِ عَلَى عَمَلٍ اخْتِيَارِيٍّ يُقْصَدُ بِهِ إِثْبَاتُ حَقٍّ أَوْ إِزَالَةُ بَاطِلٍ أَوِ الدَّعْوَةُ إِلَى عَقِيدَةٍ، أَوْ تَأْيِيدُ فَضِيلَةٍ، أَوْ إِيجَادُ وَسِيلَةٍ إِلَى عَمَلٍ عَظِيمٍ ; لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الْكُلِّيَّاتِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ هِيَ الَّتِي تُقَابَلُ مِنَ النَّاسِ بِالْمُقَاوَمَةِ وَالْمُحَادَّةِ ; الَّتِي يُعْوَزُّ فِيهَا الصَّبْرُ، وَيَعِزُّ مَعَهَا الثَّبَاتُ عَلَى احْتِمَالِ الْمَكَارِهِ، وَمُصَارَعَةِ الشَّدَائِدِ، فَالثَّابِتُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ هُوَ الصَّابِرُ وَإِنْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ مُتَكَلِّفًا، وَمَتَى رَسَخَتِ الْمَلَكَةُ يُسَمَّى صَاحِبُهَا صَبُورًا وَصَبَّارًا، وَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمِلٍ لِلْمَكْرُوهِ مِنَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ مَعَهُمْ وَبَشَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ الْآتِيَةِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْعَمَلِ لِلْحَقِّ وَالثَّبَاتِ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّ الْفَضَائِلَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِمَا يَصْدُرُ عَنْهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْجَزَاءِ، بَلِ الصَّبْرُ نَفْسُهُ مَلَكَةٌ اكْتِسَابِيَّةٌ ; وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الِامْتِثَالُ بِتَعْوِيدِ النَّفْسِ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ وَالشَّدَائِدِ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ، وَعَلَى ذَلِكَ جَرَى النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابُهُ عَلَيْهِمُ الرِّضْوَانُ، حَتَّى فَازُوا بِعَاقِبَةِ الصَّبْرِ الْمَحْمُودَةِ وَنَصَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى مَعَ قِلَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ مَعَ قُوَّتِهَا وَكَثْرَتِهَا، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِالصَّبْرِ ; لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَهُ سَبَبًا لِلنَّجَاةِ مِنَ الْخُسْرِ، كَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْعَصْرِ.
الْمُتَحَمِّلُ لِلْمَكْرُوهِ مَعَ السَّآمَةِ وَالضَّجَرِ لَا يُعَدُّ صَابِرًا، وَهَذَا هُوَ شَأْنُ مُنْتَحِلِي الْعِلْمِ وَمُدَّعِي الصَّلَاحِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، تَرَاهُمْ أَضْعَفَ النَّاسِ قُلُوبًا وَأَشَدَّهُمُ اضْطِرَابًا إِذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ عَلَى غَيْرِ مَا يَهْوُونَ، عَلَى أَنَّ عُنْوَانَ صَلَاحِهِمْ وَاسْتِمْسَاكِهِمْ بِعُرْوَةِ الدِّينِ هُوَ جَرَسُ الذِّكْرِ وَحَرَكَاتُ الْأَعْضَاءِ فِي الصَّلَاةِ، وَمَا كَانَ لِلْمُصَلِّي وَلَا لِلذَّاكِرِ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْقَلْبِ عَادِمَ الثِّقَةِ بِاللهِ تَعَالَى، وَهُوَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يُبَرِّيءُ الْمُصَلِّينَ
مِنَ الْجَزَعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الصَّبْرِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٧٠: ١٩ - ٢٢) إِلَخْ، وَقَدْ جَعَلَ ذِكْرَهُ مَعَ الثَّبَاتِ فِي الْبَأْسَاءِ فِي قَرْنٍ، إِذْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٨: ٤٥) وَقَدْ قَرَنَ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا الصَّلَاةَ بِالصَّبْرِ وَجَعَلَ الْأَمْرَيْنِ مَعًا ذَرِيعَةَ الِاسْتِعَانَةِ عَلَى مَا يُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ مِنَ الشَّدَائِدِ.
وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَدْعِيَاءُ مُصَلِّينَ لَكَانُوا مِنَ الصَّابِرِينَ، وَإِنَّمَا تِلْكَ حَرَكَاتٌ تَعَوَّدُوهَا فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا سَاهِينَ عَنْهَا، أَوْ يَقْصِدُونَ بِهَا قُلُوبَ النَّاسِ يَبْتَغُونَ عِنْدَهَا الْمَكَانَةَ الرَّفِيعَةَ بِالدِّينِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُونَ سِوَاهَا، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ احْتِمَالَ الْمَكَارِهِ، وَيُحَاوِلَ تَحْصِيلَ مَلَكَةِ الصَّبْرِ عِنْدَمَا تَعْرِضُ لَهُ أَسْبَابُهُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى عَمَلِهِ بِالصَّبْرِ لَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرٌ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَى عَمَلٍ، وَلَا سِيَّمَا الْأَعْمَالُ الْعَظِيمَةُ كَتَرْبِيَةِ الْأُمَمِ وَالِانْتِقَالِ بِهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ; لِذَلِكَ تَرَى كَثِيرِينَ يَشْرَعُونَ فِي الْأَعْمَالِ الْعَظِيمَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute