للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عِبَادِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْجَهْلُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَهَذَا الْعُمُومُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا مِنَ الْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَمَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُنَاطَ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ دَوْلِيَّةٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ طَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى فَيُرَاعَى هَذَا فِي الْحُقُوقِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، اقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَمُتَصَدِّقٍ وَتَالٍ لِلْقُرْآنِ وَذَاكِرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُمِيطٍ لِلْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مُسْتَحِقًّا بِعَمَلِهِ هَذَا لِلزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَإِرَادَتُهُ تُنَافِي حَصْرَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَاتِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا حَدَّ لِجَمَاعَاتِهِ فَضْلًا عَنْ أَفْرَادِهِ، وَإِذَا وُكِّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ تَصَرُّفًا تَذْهَبُ بِهِ حِكْمَةُ فَرْضِيَّةِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَصْلِهَا.

(فَإِنْ قِيلَ) نُخَصِّصُ الْعُمُومَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ - وَقَالَ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ - وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: " إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَاحَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ " وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا (قُلْنَا) : إِنَّ هَذَا لَيْسَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ " سَبِيلِ اللهِ ".

وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ سَبِيلَ اللهِ هُنَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ حَجَّ الْأَفْرَادِ لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْفَرَائِضِ الْعَيْنِيَّةِ بِشَرْطِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، لَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ وَإِقَامَةَ الْأُمَّةِ لَهَا مِنْهَا، فَيَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْ هَذَا السَّهْمِ عَلَى تَأْمِينِ طُرُقِ الْحَجِّ وَتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَالْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الصِّحَّةِ لِلْحُجَّاجِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِذَلِكَ مَصْرَفٌ آخَرُ.

وَاِبْنِ السَّبِيلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ بَلَدِهِ فِي سَفَرٍ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ، فَقِيرٌ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى لِفَقْرِهِ الْعَارِضِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالسِّيَاحَةِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُهُ فِي دِينٍ وَلَا شَرْعٍ آخَرَ - وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ فِي طَاعَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتَّنَزُّهِ لَا الِاسْتِشْفَاءِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَامَّةِ كَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَعَدَمِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ فِي السَّفَرِ كَوْنُهُ بِقَصْدِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْأَصْلَيْنِ ١٣ و١٤ مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص٧٧ ج ٨ ط الْهَيْئَةِ) وَقَلَّمَا يُوجَدُ غَنِيٌّ يُسَافِرُ فِي أَمْصَارِ الْحَضَارَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ الْمَالِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>